أقول إننا سرنا إلى مسجد القصر. وقد حفر فيه هرسفلد واستخرج منه آثاراً رخامية ومحراباً جميلاً حملها إلى ألمانيا ثم انتهينا إلى البركة، ولست أكتم القراء إني كنت أظن أن البحتري يبالغ قي وصفها، على طريقة الشعراء الخياليين وأقرر ذلك في دروسي، وأقول ما عسى أن تبلغ هذه البركة، حتى تظل دجلة كالغيرى منها تنافسها وتباهيها. وحتى تبدو في الليل كان سماء ركبت فيها، وحتى أن السمك المحصور لا يبلغ غايتها لبعد ما بين قاصيها ودانيها! فلما رأيت أنقاضها رأيت شيئاً عظيماً. رأيت بحراً، رأيت ميدان سباق، دائرة قطرها نحو مائتي متر، فأكبرتها وهي جافة فكيف لو رأيتها وهي ممتلئة بالماء، ومن حولها الغرف المفروشة المزخرفة، وقد عقد فيها مجلس الخليفة، إذن لرأيت أكثر مما قال البحتري، فرحم الله الشاعر وألهم شعراءنا تخليد ما يرون من جمال بلادهم، وعظمة مصانعهم، على نحو ما خلد البحتري البركة، والجعفري وطاق كسرى!
ثم سرنا إلى قصر الخليفة الرسمي ووقفنا في إيوانه الكبير، وهو بني على شكل إيوان كسرى، ولكنه أجمل وأصغر، وقفنا صامتين خاشعين تتقاذفنا عواطف وذكريات لا يدرى مداها، نتخيل هذا الإيوان وكم عقد فيه من مجالس، وكم وقف فيه من ملوك، وكم كتب فيه من تاريخ، نبصر المعتصم وقد أخذ كأسه ليشرب فأبلغوه إن امرأة مسلمة أسيرة في بلاد الروم صاحت: وا معتصماه.
امرأة أسيرة، وأمير المؤمنين يشرب كأسه هانئاً؟ امرأة تنادي: وامعتصماه، والمعتصم لا يجيب؟ إن هذا لن يكون
وأرى المعتصم يخرج في الجيش اللجب الذي تضطرب له سر من رأى، وتميد لثقله الأرض، وتصعق لهوله المردة، وترتجف الرواسي حتى يحط على عمورية، فيدكها دكاً ويعود مثقلاً بالمجد والظفر والغنائم.
وأسمع أبا تمام ينشد آيته الخالدة.
السيف اصدق إنباءً من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به ... نظم من الشعر أو نثر من الخطب
يا يوم وقعة عمورية انصرفت ... منك المنى حفلاً معسولة الحلب