بإن الجاحظ كان داعية كبيراً، قد استطاع أن يتصل بالجمهور إلى حد بعيد، وأن يؤدي لنفسه وللمعتزلة من هذه الناحية شيئاً كثيراً، فكان مثله في ذلك مثل الصحفي الماهر في أيامنا الحاضرة.
وقام من بعد ذلك الأستاذ أحمد الشايب للكلام في مآخذ الجاحظ فابتدأ القول بكلام الناس في ثقافة الجاحظ واتساعها وثنائهم عليه من هذه الناحية، وقال إن الجاحظ كان واسع المعارف حقاً، قد اتصل بكل النواحي الفكرية والعقلية في ايامه، ولكن ثقافته كانت ثقافة عامة أو قل ثقافة صحفية يتلقفها من دكاكين الوراقين، وقد كان ذلك مذموما في عصره حتى كانوا يقولون: هو صحفي إذا أرادوا الذم، ونحن نرى أن الجاحظ وإن كان قد ألم بكل شيء ولكنه لم يتبحر في شيء، فثقافته أخذ من كل شيء بطرف كما يقولون.
قال الأستاذ: ولقد أخذت أنظر الجاحظ في كل ناحية من نواحي ثقافته فما وجدته إلا على ما وصفت، ثم أنتقص كلامه في الحيوان، وأورد في ذلك كلام الباحث الفرنسي كارادفو في كتابه (مفكروا الإسلام) وقد كان غاية ما حاوله الأستاذ أن ينتقص جهد الجاحظ وآراءه في الحيوان والنقد والبلاغة، وفي كل ناحية من النواحي التي كتب فيها. وقال إنه كان ينتهب آراء غيره، وكان يخلط بين النقد والبلاغة، على أن هناك فرقاً بين الناحيتين، ولقد كان الجاحظ في مؤلفاته يثير كثيراً من المشاكل ويمس الأمور المعضلة القائمة في عصره فيستطيع أن يشخصها ويكيفها ويلقى فيها الأسئلة القوية، ولكنه كان يتركها عند هذا الحد، فلا علاج يشفي، ولا جواب ينتهي بالقارئ إلى رأي حاسم، ولذلك كان من السهل على الجاحظ أن يؤلف في الشيء ضده وأن يناقض نفسه بنفسه ما دام هو يقف في ذلك عند الآراء الشائعة والمسائل الذائعة في كل فرقة. ولقد روى أن أحد الأمراء أرسل إلى الجاحظ يطلب منه أن يحتج له في رأي، فكتب له الجاحظ بما طلب، فعاد الأمير يقول له: إن الخادم قد غلظ في تبليغ الرسالة إليك وإنما أريد أن تكتب في نقيض هذا الرأي، فلم يتورع الجاحظ على أن يكتب له.
قال الأستاذ: وقد كان الجاحظ من المتكلمين، وكان الجدل والكلام في عصره على غاية ما يكون من الشدة، ولكني لم أعرفه قد كتب كتاباً في أصول الجدل أو ألف في علم الكلام كما كانت تقتضيه وظيفته ويقتضيه عصره، ثم أنتقد الجاحظ في تحقيقه، وأورد كلاماً