للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

خمارويه مشغوفاً بالصيد لا يكاد يسمع بسبع في غيضة أو بطن واد إلا قصده ومعه رجال عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابه عنوة وهو سليم فيضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنعة يسع الواحد منها السبع وهو قائم

وكان الأسد الذي اختاروه للشيخ أغلظ ما عندهم، جسيما، ضارياً، عارم الوحشية، متزيل العضل، شديد عصب الخلق، هراساً، فراساً، أهرت الشدق، يلوح شدقه من سعته وروعته كفتحة القبر ينبئ أن جوفه مقبرة، ويظهر وجهه خارجاً من لبدته، يهم أن ينقذف على من يراه فيأكله.

وأجلسوا الشيخ في قاعة وأشرفوا عليه ينظرون، ثم فتحوا باب القفص من أعلاه، فجذبوه فارتفع؛ وهجهجوا بالأسد يزجرونه فانطلق يزمجر ويزأر زئيراً تنشق له المرائر ويتوهم من يسمعه أنه الرعد وراءه الصاعقة.

ثم اجتمع الوحش في نفسه وأقشعر، ثم تمطى كالمنجنيق يقذف الصخرة، فما بقي من أجل الشيخ إلا طرفة عين. ورأيناه على ذلك ساكناً مطرقاً لا ينظر إلى الأسد ولا يحفل به، وما منا إلا من كاد ينتهك حجاب قلبه من الفزع والرعب والإشفاق على الرجل.

ولم يرعنا إلا ذهول الأسد عن وحشيته فأقعى على ذنبه ثم لصق بالأرض هنيهة يفترش ذراعيه، ثم نهض نهضة أخرى كأنه غير الأسد، فمشى مترفقاً ثقيل الخطو تسمع لمفاصله قعقعة من شدته وجسامته، وأقبل على الشيخ وطفق يحتك به ويلحظه ويشمه كما يصنع الكلب مع صاحبه الذي يأنس به، وكأنه يعلن أن هذه ليست مصاولة بين الرجل التقي والأسد، ولكنها مبارزة بين إرادة ابن طولون وإرادة الله.

وضربته روح الشيخ فلم يبقى بينه وبين الآدمي عمل، ولم يكن منه بازاء لحم ودم، فلو أكل الضوء والهواء والحجر والحديد، كان ذلك أقرب وأيسر من أن يأكل هذا الرجل المتمثل في روحانيته لا يحس لصورة الأسد معنى من معانيها الفاتكة، ولا يسري فيه إلا حياة خاضعة مسخرة للقوة العظمى التي هو مؤمن بها ومتوكل عليها كحياة الدودة والنملة، وما دونها من الهوام والذر.

وورد النور على هذا القلب المؤمن يكشف له عن قرب الحق سبحانه وتعالى، فهو ليس بين يدي الأسد ولكنه هو والأسد بين يدي الله، وكان مندمجاً في يقين هذه الآية:

<<  <  ج:
ص:  >  >>