حضيض من القهر والازدراء والجهالة، وفشت الرشوة والمحاباة والمصادرة بين الحكام، وكثر الفقر من جراء ذلك وإدعاء الفقر والتسول والاحتيال باسم الدين والطب والأدب والعلم، وذاع الفساد وفاحش القول ومبتذل التندر
يبدو أثر كل هذا في تنديد المعري بالمرأة وسخر غيره من الشعراء منها، وتلك الأقاصيص التي أفتن الجاحظ والأصفهاني وابن دريد في جمعها وتأليفها، عن عبث النساء وغدرهن وخيانة الزوجات وجوب تشديد الحجاب عليهن، فكان ابن دريد مثلاً يخترع الحكايات يفسر بها الأمثال السائرة فيتخذ ذلك الضرب من حديث النساء مادة لها. وبدا أثر تلك الحال السالف شرحها أيضاً في مقامات بديع الزمان والحريري، حيث لا يزال بطل المقامات يتنقل من تسول إلى احتيال إلى خديعة، ولا يزال الحارث ابن همام يؤكد حرصه في أسفاره إذا ما هبط بلداً أن يتعرف إلى واليه أو قاضيه أو بعض ذوي الكلمة فيه، يتقي بمعرفته ظلم الغاشمين والمرتشين من عمال الحكومة، ويتحاشى غوائل الإرهاق والمصادرة والسجن. ويقف كاتبا المقامات المذكورة صفحات طويلة على استعراض ضروب الشتائم والبذاء يتقاذفها أشخاص الأقصوصة. ويقول ابن الرومي واصفاً حال الموظفين والتجار وإضرابهم:
أتراني دون الألى بلغوا الآ ... مال من شرطة ومن كتاب
أصبحوا ذاهلين عن شجن النا ... س وإن كان حبلهم ذا اضطراب
وتجار مثل البهائم فازوا ... بالمنى في النفوس والأحباب
هذه لمحة خاطفة إلى آثار أحوال المجتمع المتعاقبة في الأدب العربي، إذ كان من المحال تقصي تلك الآثار الاجتماعية التي تنعكس في الأدب، مادته وأشكاله ومذاهبه وألفاظه، وما يزال الناظر في مخلفات والشعراء والكتاب يطلع من آثار مجتمعهم على جديد. وفي نوادر أبي نواس وفكاهات الجاحظ وحكايات الأصبهاني دلائل متفرقة على شتى نواحي الحياة الاجتماعية في عصورهم. وإذا قرأنا في مقامات البديع مثلا أن أبا الفتح اصطنع فيما اصطنع من حيل لاقتناص الدراهم والدنانير حرفة القراءة، فرآه عيسى بن هشام مرة وسط جمع من الغوغاء يضحكهم بألاعيب قردة، علمنا أن تلك الحرفة التي ما تزال مشاهدة في بعض البلدان حتى عصرنا هذا بعد انتشار حدائق الحيوان، كانت تمارس منذ تلك العهود.