وكذلك نعلم أن أبناء السند وفدوا فيمن وفدوا من أبناء الشعوب إلى مقر الخلافة يبتغون الرزق تارة بالصيرفة إذ يقول الجاحظ أنه لا يكاد يوجد ذو تجارة رابحة إلا وصاحب كيسه سندي؛ وتارة بإضحاك العامة - شأن أبي الفتح الإسكندري - بألاعيب الفيل، وذلك إذ يقول دعبل:
هذا السنيدي لا فضل ولا حسب ... يكلم الفيل تصعيداً وتصويباً
كل هذه الآثار الاجتماعية ما جل منها وما ضؤل، واضحة في الأدب العربي شعره ونثره؛ بيد أن أغلبها قد جاء في الأدب عفواً أو عرضاً، ولم يقصد لذاته ولم تنظم القصيدة أو لم يصنف الكتاب عمداً لوصفه وبيانه، بله نقده وإصلاحه، فأكثر أدباء العربية بعد الإسلام وبعد استتباب الملك كانوا عن مجتمعهم في شغل، قد يرون من أموره ما لا يرضيهم، وقد تكون لهم آراء في السياسة ومذاهب في الدين لا ترضي أصحاب السلطان، ولكنهم كانوا في أغلب الأحوال يكتمون مثل تلك الآراء والنظريات، وكيف يبوحون بنقداتهم وهم بين رجاء لنوال السلطان وإشفاق من غضبه؟ إن النقد الصريح الحر والنظر الاجتماعي الصادق لا يترعرعان بين ذهب المعز وسيفه، إنما كان يجهر الأدباء بالنقد والمعارضة في الجاهلية وصدر من الإسلام، وهما عهد الحرية واستقلال الفرد؛ فلما توطدت الملكية المطلقة خفتت أصوات الأدباء وقطعت ألسنتهم. وكان شعراء الخوارج الكثيرون الذين أطاح الأمويين رؤوسهم عبرة لسواهم من الشعراء وقد مدح سويف الشاعر بعض العلويين الثائرين فوأده المنصور، وثار المتنبي في صباه يبتغي إصلاح الأحوال المتفاقمة فزج به في السجن
فالملكية المطلقة قد فرضت على الشعب ألا يراجعها في أمر، وانقلبت بالأمة العربية بذلك من النقيض إلى النقيض. كان العرب في جاهليتهم مسرفين في الاستقلال والفردية، فصاروا في ظل الملكية مسرفين في الخضوع والاستسلام، وفرضت تلك الملكية على الأدباء أن يعيشوا عالة عليها وعلى المجتمع، لا يشاركون الشعب آماله وأعماله، ولا يقودون أفكاره وحركاته، فلم يكن المجال متسعاً أمام الأديب العربي، كما كان متسعاً أمام الأديب الإنجليزي، لوصف المجتمع ونقد أحواله والدعوة إلى إصلاحه. فإن هو فعل ذلك عرض نفسه للتهلكة ولم يفد المجتمع فتيلا. إنما يؤمل الأديب الإنجليزي أن يفيد مجتمعه