يستطيع أن يقره على رأيه في النقد اللاتيني، بل أنا لا أقضي العجب من تورط الأستاذ في إعلان هذا الرأي الغريب فليس من الحق أن النقد اللاتيني سطحي وليس من الحق أن هذا النقد يعتمد على الأوضاع الاجتماعية ويهمل الإنسان من حيث هو إنسان. هذا كلام لا يمكن أن يقبل مع أن من الأشياء المقررة التي يتلقاها الشبان في المدارس أن قوام الأدب الفرنسي الكلاسيكي إنما هو بالضبط: إلغاء هذه الفروق والأوضاع الاجتماعية التي تمتاز بها الأمم والشعوب فيما بينها بل التي تمتاز بها البيئات المختلفة في أمة بعينها والاتجاه إلى الإنسان من حيث هو إنسان إلى هذا القدر المشترك بين الناس جميعا من العقل والشعور. على هذه القاعدة يقوم الأدب الفرنسي الكلاسيكي كما يقوم عليه الأدب اليوناني القديم والأدب كله بما فيه من شعر ونثر ونقد، فكيف يقال في أدب يقوم على هذا الأصل أنه سطحي يقوم على الظواهر والأوضاع الاجتماعية.
ولأدع الأدب بمعناه العام ولأتحدث عن النقد وحده ولن أحدث الأستاذ عن نقد بوالو وفولتير وغيرهما من النقاد الذي عاشوا قبل الثورة فان حديث هؤلاء يطول، وإنما أتحدث إلى الأستاذ عن النقد الفرنسي في القرن الماضي، واسأله كيف يستطيع أن يقول أن هذا النقد سطحي يعتمد على (الأناقة) و (اللياقة) والأوضاع الاجتماعية ويهمل الحقيقة الإنسانية البسيطة؟ ألم يقرأ سانت بوف؟ أن قراءة لفصل واحد لهذا الكاتب الذي ملأ الدنيا نقدا لأنه أنفق في النقد صفوة حياته تقنع الأستاذ ومن هو اقل من الأستاذ جدا إلماما بالأدب والنقد بان سانت بوف كان أبعد الناس على أن يكون رجلا من رجال الصالونات يقدم الكتاب والشعراء إلى الناس في أناقة ولباقة وظرف ومجاملة. ولعل الأستاذ يعلم أن أهم ما أخذ به سانت بوف من العيب إنما هو تعمقه أسرار الناس وبحثه عن دخائلهم وتتبعه لحياتهم الفردية فما ينبغي أن يعرف وما ينبغي أن يجهل وعرضه هذا كله على الناس لأنه كان يرى أن فهم الأدب رهين بفهم الشخصية الفردية للأدباء الذين ينتجون. ولو قد وقع شوقي رحمه الله بين يدي سانت بوف كما وقع لمارتين لقرأ الأستاذ العقاد في نقد شوقي صحفا ترضيه كل الرضى وتخالف كل المخالفة ما قرأه الأستاذ في كتاب صديقنا أنطون الجميل. لم يكن سانت بوف رجل صالونات وإنما كان يغشى الصالونات فيرى ما كان يحدث فيها ويتخذه وسيلة لتعرف ما يقع من وراء الأستار.