ترى ذا السبق والمسبوق منها ... كما بسطت أناملها اليدان
ساعدت السليقة المواتية أو الجد الموفق بشارا، فجاء بيته ذاك ببحره الطويل وحروف اللين المتتالية الوئيدة الحركة في (تميت) و (أرواحنا) و (قلوبنا) و (مراراً) و (تحبيهن) و (هجود) أصدق مصور لصوت المغنية إذا هي مددته وخالفت بين المدات فيه والقصرات، ويبدو ذلك جلياً إذا قرء البيت على مهل. كذلك حالف التوفيق ابن المعتز فاختار لبيتيه البحر الوافر المتدفق تدفق الخيل في مجالها، وحالفه التوفيق مرة أخرى فذكر العذار والعنان، وفضلاً عن تتابع هذين اللفظين مما يزيد الحركة جلاء فإن ذكرهما مما يزيد الصورة تجسماً، فإن ذكر جزء من الصورة دون بقية الأجزاء كثيراً ما يزيد الصورة وضوحاً، ويبعث من تلقاء نفسه باقي الأجزاء إلى الخيال. ولذلك مثال آخر في قول جميل:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
فذكر الأعناق هنا بلاغة فائقة، فهو يستسيغ إلى المخيلة منظر الإبل والأباطح والركب، ويرسم حركة المطي معا. ومما يزيد الحركة تصويراً اختيار الشاعر البحر الطويل البطيء النغم. وهناك وسائل أخرى لتجسيم الحركة البطيئة، منها كثرة العطف ففيها دلالة على التطاول والتواني، ومنها كثرة الألفاظ القصيرة فإنها تستغرق نفس القارئ حتى يكاد يلهث بعد قراءتها، ومن ثم يشعر بالبطء في المعنى تبعاً للبطء في اللفظ. ومثال الوسيلة الأولى قول امرئ القيس في تتطاول الليل
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ومثال الثانية قول المتنبي:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم
فقد احتوى بيت امرئ القيس على ثلاث جمل معطوفة، واحتوت الشطرة الأولى من بيت المتنبي على خمس كلمات كلها قصير، إذا قرأها القارئ متروياً جاءت بطيئة مشعرة ببطء الجيش أو موحية بضخامته، فلم يذكر المتنبي صراحة ومباشرة أن الجيش كان (ضخماً) فيعتمد على المعنى وحده في إعطائنا الصورة، بل أوحى إلينا بمعنى الفخامة بوساطة كلمات الشرق والغرب والزحف، ولا علاقة لهذه الكلمات في غير هذا البيت بالضخامة