للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حاجة قوية إلى هذا الخصام والجهاد ليحيا ويقوى ويثبت للأحداث، ويبقى على رغم الخطوب. ثم أذن الله لهؤلاء المختلفين أن يعودوا إلى ما كانوا عليه من ائتلاف، ويثوبوا إلى ما كان بينهم من مودة وحب، ومن تعاون واتفاق، فصفا بعضهم لبعض، وسعى بعضهم إلى بعض، ورضى بعضهم عن بعض، ورضيت الأمة عنهم جميعا، ورضى الله عنهم فأثرهم برحمته واختارهم إلى جواره، يسعى بعضهم إلى أثر بعض إلى دار الخلود وقد أدى واجبه، ونهض بما كان ينبغي أن ينهض به من الحق. وكان سعد أسبقهم إلى الخلود، وكان عدلي آخرهم انتقالا إلى دار الخلود. ولقد تحدث الناس عن سعد ورشدي وثروت فأطالوا الحديث، وسيتحدثون، وستكون أحاديثهم أجل وأوضح، وأدل على عظمة هؤلاء النفر كلما بعد بيننا وبينهم العهد، ومضت على وفاتهم الأيام، ولكن الناس لم يتحدثوا بعد عن عدلي لأنه عاش إلى هذا العهد، فكانت حياته مانعة من الحديث فيه، ولأنه مات في هذا العهد فكانت المحن المقيمة صارفة عن إطالة الحديث فيه.

وليس الحديث عن عدلي سهلا ولا يسيرا، فأنت لا تكاد تعرض لخصاله حتى تعجبك كلها، وحتى تدعوك كلها إلى أن تحمده وتثني عليه. وإذا أنت حائر لا تدري ماذا تأخذ منها وماذا تدع، ولكن نواحي ثلاثا من حياة هذا الرجل تفرض نفسها على الكتاب والمفكرين فرضا. فإما أولاها فهي امتيازه الشخصي في حياته الخلقية، وفي ما كان بينه وبين الناس من صلة. فعدلي أقل الناس تعرضا للنقد من هذه الناحية: كان رضي الخلق، وكانت هذه الخصلة أظهر خصاله وأوضحها، ولكنها على ذلك لم تكن تسبق إلى الناس ولا تظهر نفسها لهم، ولا تطمعهم في صاحبها، وإنما كانت تحيط نفسها بسياج من الآنفة والترفع، يحسبه الناس ضرباً من الغطرسة، ولونا من الكبرياء، فيهابونه وينأون عنه، فإذا أتيح لهم أن يدنوا من رجل ويخلصوا إلى نفسه، لم يجدوا غطرسة ولا كبرياء، وإنما وجدوا أنفة وعزة وترفعا عن الابتذال. ووجدوا من وراء هذا كله نفسا صافية نقية، وقلبا طاهرا وفيا، وضميرا كريما حيا. وظهر هذا كله في معاشرة حلوة، وحديث عذب ولسان عفيف، وصلات ترفع الذين يدنون من عدلي إلى حيث هو، ولا تهبط بعدلي إلى حيث يكون المتصلون به والساعون إليه.

والناحية الثانية مذهبه السياسي. فقد كان عدلي كغيره من أصحابه مؤمنا بحق مصر في

<<  <  ج:
ص:  >  >>