الاستقلال، حريصا على أن تظفر مصر بهذا الحق، لم يكن يتهم في ذلك أحد. وكان عدلي كأصحابه يرى أن المفاوضة مع الإنجليز قد تؤدي إلى الظفر بهذا الحق، وتنتهي بمصر إلى ما تريد. ولكن طريقه في تنفيذ مذهبه هذا وإخراجه إلى الحياة العملية هي التي تميزه من غيره، وهي التي تظهر طبيعته ومزاجه، كأوضح ما تكون الطبيعة والمزاج. فلم يكن عدلي صاحب قوة وعنف، ولم يكن عدلي قادرا على أن يوجد بينه وبين الشعب على اختلاف طبقاته هذه الصلة القوية التي تجعله مرآة للشعب من جهة، وملهماً للشعب من جهة أخرى. إنما كان عدلي رجلا يحب الشعب ويؤمن به، ويحرص على حقه دون أن يلهمه أو يستلهمه. كان يصدر عن عقله وتفكيره الهادئ الرزين، اكثر مما يصدر عن عواطفه الحارة وشعوره العنيف. وكان لا يحسن الحديث إلى الشعب، لأنه لم يكن يجد هذه الكلمات والجمل الساحرة التي تنفذ إلى قلوب الشعب. وكان كل ما يستطيع أن يرى ويسمع ويفكر، ثم يعمل تاركاً لغيره مالا يقدر عليه من إلهام الشعب واستلهامه. فلما ألف وزارته الأولى وأعلن برنامج هذه الوزارة متفقاً عليه مع الوفد، كان هذا البرنامج مظهرا واضحا قويا، لطبيعة هذا الرجل المستقيمة ومذهبه الصحيح في فهم حقوق الشعب وتقديرها. فأنظر إليه يحرص في هذا البرنامج حرصا شديدا على أمرين: الأول أن يستخلص لمصر حقوقها من الإنجليز بالمفاوضة، والثاني أن يعرض على الشعب المصري نتيجة المفاوضة لينظر فيها ويقرها، وأن يكون هذا الشعب ممثلا في جمعية وطنية لا تقف مهمتها عند إقرار المعاهدة وتنظيم العلاقة بين مصر والإنجليز، بل تتجاوز هذا إلى شيء عظيم الخطر حقاً وهو وضع الدستور، وتنظيم سلطة الشعب، وتنظيم العلاقة بين السلطة التشريعية وغيرها من السلطات التي يتكون منها سلطان الدولة؛ ومعنى ذلك أن عدلي كان يؤمن بأن الأمة وحدها مصدر السلطات، وبأنها ما دامت كذلك فهي التي يجب أن تضع الدستور وأن تعلنه لا أن تتلقاه. ومن يدري؟ لو أن الظروف واتت عدلي ومكنته من تنفيذ برنامجه لعل مصر أن تكون قادرة على أن تجتنب كثيرا من الأزمات الداخلية التي ألمت بها فجرت عليها شرا كثيرا.
ولست أدري لعل موضع الخطأ في برنامج عدلي رحمه الله أنه جعل دعوة الجمعية الوطنية نتيجة للمفاوضات لا مقدمة لها. فلما لم تنجح مفاوضته لم تدع الجمعية الوطنية،