وتلقت مصر الدستور ولم تصدره. ولكن أكان عدلي قادرا حقا على أن يدعو الجمعية الوطنية قبل المفاوضة، وقبل أن يستخلص لمصر حريتها من الإنجليز؟ وماذا عسى أن تكون قيمة هذه الجمعية الوطنية التي تدعي وتعقد وتشرع الدستور وغير الدستور في ظل الحماية الأجنبية؟ وماذا يكون موقف هذه الجمعية الوطنية من الإنجليز؟ وماذا يكون موقف الإنجليز منها إن شجر بينها وبينهم خلاف: مهما يكن من شيء، فقد كان فهم عدلي لحقوق الشعب وتصويره لهذه الحقوق ملائمين أشد الملاءمة لأرقى المثل الدستورية العليا.
الناحية الثالثة: وفاء هذا الرجل العظيم لمذهبه في السياسة، ورأيه في حق الشعب، وثباته على هذا المذهب، وامتناعه أن يتحول عنه مع الظروف، فقد أخفق في مفاوضة الإنجليز واستقال وعجز عن أن يدعو الجمعية الوطنية، ولكنه قضى بقية حياته مؤمنا بأن المفاوضة هي أوضح السبل إلى الاستقلال، مؤمنا بأن سلطة الشعب هي القوام الشرعي الوحيد لكل حكومة، وهي العماد الشرعي الوحيد الذي يجب أن تعتمد عليه الحكومات فيما تأتى من الأمر في السياسة الداخلية أو الخارجية؛ ولم يكد يصدر الدستور حتى عرف عدلي كيف يرضي نفسه وضميره في السياسة، فتقدم إلى أمته في الانتخابات؛ فلما قضت عليه أذعن لقضائها ورضي به، لا يحمل لأمته غلا، ولا يضمر لها حقدا، ولا ينكر عليها أنها انصرفت عنه إلى غيره، ولم تمنحه ثقتها وهو على ذلك كله مؤمن أصدق الإيمان بأن هذا الدستور الذي صدر لا يفيد الذين اقسموا على الإخلاص له وحدهم، وإنما يقيد المصريين جميعا وهو من بينهم. ومن هنا تستطيع أن تفهم أن عدلي قد أبى كل الآباء بعد صدور الدستور أن يؤلف وزارة، أو يؤيد وزارة أو يشترك في وزارة لا تعتمد في صراحة وإخلاص على الدستور؛ ومن هنا نستطيع أن نفهم إسراعه إلى الائتلاف مع سعد حين دعي إليه، وإخلاصه في تأييد هذا الائتلاف، وقبوله رياسة الوزارة في هذا الائتلاف، لأن هذا الائتلاف كان قوامه إرجاع الحياة الدستورية، وكان اعتماده على الدستور، وكان بقاؤه رهيناً ببقاء الدستور؛ ومن هنا تستطيع أن تفهم كيف اعتزل السياسة وانصرف عنها حين وقف الدستور، وكيف أسرع إلى قبول الوزارة حين عرضت عليه ليرد الدستور. ثم من هنا تفهم أيضاً كيف أنكر ما كان من تغيير الدستور القديم، وكيف أسرع إلى الاحتجاج على هذا التغيير، وكيف أسرع إلى التعاون مع المؤتمر الوطني الذي أنكر ما حدث من تغيير،