كم من هؤلاء في أمة واحدة وكم منهم في الشرق كله هذا الزمان وأخشى أن أقول في جميع الأزمان؟
إن لم تكن الحقيقة أن الشرق مسكين غاية المسكنة مدقع غاية الادقاع في ازواد الحس والخيال، فالأسطورة الكبرى ولا ريب هي أنه مسرف في حسه وخياله، مفرط في شطحاته وآماله.
فما بالنا نحار كيف نعمل، وأولى بنا أن نحار كيف نحس ونتخيل؟ وما بالنا ننشد أسباباً للحركة والعمل غير أن نملأ نفوسنا بالإحساس كأنما هذا وحده غير كاف؟ وكأنما نحتاج بعد الإحساس إلى مزيد؟
إن الإنسان ليثور من السخط والغضب حين ينظر إلى فقرائنا العجزة المعدمين وهم يتيهون من الغنى الموهوم، ويتغطرسون بالثراء المعدوم. واسمعهم يتغنون بالحب مثلا والحب فيض في الشعور واتساع في آفاق الوجدان؛ واسمعهم يتغنون به وهو صنوف صنوف صنوف لا تنحصر في معنى واحد ولا في نمط فريد: حب الناشئين غير حب الكهول، وحب التفاهم والتعاطف غير حب المتع والشهوات، وحب المرأة المطواع اللعوب غير حب المرأة العصية الشموس، وحب المنكوب اللاجئ إلى حرم العاطفة غير حب السعيد الناعم بما في يديه، وحب الواثق غير حب المرتاب، وحب الوسيمة القسيمة غير حب الرشيقة الظريفة، وحبك الأول غير حبك بعد تجربة ومراس، وصنوف غير ذلك تتعدد بعداد الرجال والنساء وعداد الأحيان والأعمار والمناسبات.
اسمعهم يتغنون بهذه العاطفة الشاملة الداوية العميقة الرحيبة التي لا عداد لها بالألوان وإن عدت باللفظ في كلمة واحدة، وقل لي ماذا تسمع غير نغمة واحدة معروضة في شتى أساليب؟ ماذا تسمع غير أن حبيبة هاجرة أبدا وحبيبا سيموت أبدا وفوق ذلك قطرات هنا من دموع وشهقات هناك من أنين؟
ودع هذا واسمع المنشد أو المنشدة لا يكادان يفرغان من نغمة مبدوءة حتى يتبعهما ضجيج وزعيق وقرع وخبط وتصفيق كله نشوز واختلاط ومنافاة أبعد المنافاة لسماع الألحان والأنغام. وقل لي: هل تصدق أن هؤلاء السامعين يستمعون إلى موسيقى ويصغون إلى فن