للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وهي السبب، لأن في هذا ضعة أيضاً، فيلوم الناس ويلوم المجتمعات، ويكون مثله مثل من عجز من أن ينتقم من عدوه، فانتقم من صديقه

أتدري السبب في أن الشباب لا يودون كثيرا أن يجالسوا آباءهم ولا اخوتهم ولا أقرباءهم ويفضلون - غالبا - أن يجالسوا الغرباء؟

هو أيضاً - هذا القانون، فإن آباءهم واخوتهم وأقرباءهم يعلمون نشأتهم وكل شيء فيهم، وكل شيء حولهم، وفي ذلك عيوب عرفوها، وزلات وقعت تحت أعين الآباء ومن إليهم، فالشباب يشعر بهذا التاريخ كله إذاجلس إليهم، وهذا يشعره بالضعة. فهو يفضل عليهم صداقة الغرباء، لأنهم يجهلون تاريخه، ويجهلون زلاته فهو عندهم لا يشعر بنقص، ولا يشعر بضعة، فكان إليهم أميل، وبهم آنس؛ والمثل العربي يقول (برق لمن لا يعرفك) ومعناه تبجح وهدد من لا يعرفك، لأن من عرفك لا يعبأ بك

لقد كان لي أستاذ في سن الخمسين وكان جلساؤه أقلهم في سن الستين، فسألته في ذلك فقال: إني اخترتهم لأني اشعر وأنا معهم أني شاب

بل هذا هو السر في أن الرذيلة في كثير من الأحيان توثق الصداقة بين أصحابها، فالمقامر أقرب إلى صداقة المقامر، ومدمن الخمر إلى مدمنها، والغزل إلى الغزل، واللص إلى اللص، وقل أن ترى ذلك في الفضيلة فالصدق قل أن يؤلف بين اثنين لصدقهما، والعدل إلى العدل، ولا الصريح إلى الصريح

والسبب في هذا أن ذوي الرذيلة يشعرون بالضعة من رذيلتهم فيهربون إلى الأراذل مثلهم حتى يتجردوا من هذا الشعور؛ أما الشعور بالعدل أو الصدق فليس فيه هذا الألم فلا يحتاج صاحبه إلى البحث عن مهرب - وهو السبب في احتياج أصحاب الرذيلة إلى مخبأ، فحجرة المقامرة مستورة، ومجلس الشراب في مخبأ، والغزلون يتسترون، ومحال الحشيش والكوكايين في حرز الخ، وليس السبب في ذلك فقط أن رجال الأمن يطاردونهم. بل أكاد أوقن أن هذه الأمور لو أبيحت من رجال الأمن لتستروا أيضاً لأنهم يريدون أن يهربوا بأنفسهم من الشعور بالضعة أمام من لم ينغمسوا في الرذيلة انغماسهم

ألست ترى معي أن الرجل الملتزم للأخلاق المتشدد فيها أقل الناس أصدقاء واشد الناس وحشة، وكلما اشتد في تزمته اشتد الناس في كراهيته، وأن الرجل كلما سما عقله بعد عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>