دم الفأر حتى تلبد. ما افظع هذه التريبنسومات، وما اخدعها وما أصلب عودها! إن كل المكروبات الفظيعة عودها صليب؛ وإنك لواجد هذا المكروب أصلب المكروبات عوداً. وكيف لا وهذا هو قد اجتمع عليه ألماني وياباني فقذفاه بتلك الصبغة الزاهية فلعقها واستمرأها. وقد يتراجع عنها في حذر وتبصر وينتحي لنفسه منجى عن السوء في بعض نواحي الفأر ولكنه يتربص الفرص ليخرج ويتكاثر مرة أخرى.
فأرليش لم يكد يستمتع بنجاحه الأول القليل حتى توالت عليه ألف خيبة وخيبة.
فالتريبنسوم الذي وجد داود بروس أنه سبب مرض الناجانا وكذلك التريبنسوم الذي يسبب مرض النوم كلاهما برقا لأحمر التريبان وهزءا منه وضحكا عليه وأبيا كل الإباء أن يقرباه، كذلك وجد إرليش أن الصبغة التي نجحت نجاحاً باهراً في الفيران، أخفقت كل الإخفاق لما جربت في الفيران البيضاء والخنازير الغينية والكلاب. له الله ما كان أكثر جلده على مشقة مثل هذا العمل الطويل المسئم الذي لم يكن لينهض به إلا رجل ملحاح مثله رأى بشائر النجاح في شفاء فأر واحد فتشبث بأن النجاح سوف يأتي كله ولو امتد به الزمن واشتد عليه العمل.
إنك لو عرفت كم قتل إرليش من الحيوانات في تجاربه لقلت:(يا خسارتها)، وأنا مثلك كنت شديد الإيمان بالعلم معتزاً به وبسرعة إنتاجه اعتزازاً بلغ حد الغرور والغباء، فكنت مثلك أقولك:(يا خسارتها). ولكن لا. أو أن شئت فقل إنها خسارة كبرى، ولكن اعلم إلى جانب هذا أن الطبيعة ذاتها كثيراً ما تجود بأبرع أنتجتها ولكن بعد أن تبذل وتسرف في البذل في سبيلها عن سعة عظمى. ومع هذا فلابد أن تذكر أن إرليش تعلم من هذه الخسارة درساً قيما: هات صبغة لا نفع فيها إلا ازدهاؤها وجمالها، وغير تركيبها الكيماوي قليلا، تستحل إلى دواء ذي شفاء. فهذا الدرس نفع إرليش وملأه بالثقة وهو الواثق المعتز بنفسه دائماً أبدا
وزاد معمله على الزمن اتساعاً، وزاد نصيبه من محبة الناس واحترامهم. واعتقد أهل المدينة فيه العلم وفهم كل خفية من خفاياه وحل كل طلسم من طلاسم الطبيعة. وعلموا فيه النسيان فأحبوه لهذا النسيان. وتحدثوا فيما تحدثوا أن السيد الأستاذ الدكتور إرليش كان يعلم من نفسه النسيان، فتحين أحيان الأفراح في بيته فيضرب لها الموعد للاحتفال بها، فيخشى