فهو لا يقنع أن يفرط في الشراب ما شاء، بل يأبى إلا الإمعان في الفجور وإلا أن يتم لذته بالجهر بالعربدة
ولئن حمدت الحرية الفكرية التي كان يتمتع بها الفلاسفة والعلماء في كثير من الدول الإسلامية، فما كذلك هذه الحرية التي استباحها المجان من الأدباء، الأولى حرية تساعد تقدم الفكر ورقي العلم، والثانية تؤدي إلى انحطاط الخلق وتضرب في دعائم المجتمع. الأولى حرية فكرية نافعة، والثانية إباحية خلقية ضارة، والأدب يرسم للمجتمع - وان لم يقصد - مثلاً عليا يتوخاها، فإذا تمادى في تصوير دنئ النوازع فانه يهبط بالنفوس إلى مستوى منحط لا تريد عنه ارتفاعاً. وليس شك في إن أشعار أبي نواس ومثاله كانت من اكبر أسباب انحطاط المجتمع الإسلامي، وقد كانت حياة الصعلكة التي كان يحياها، وأشعار العربدة التي نظمها، نموذجا للأدباء في عصور الأدبار، فكان الأدب والصعلكة وإدمان الشراب ووصف الخمر فبنظرهم توائم لابد أن تجتمع
ففي الأدب العربي آثار من الخلق الكريم وتمدح بالفضيلة، بجانبها آثار من الأخلاق المنحطة ومجاهرة بالاستهتار؛ وفي الإنجليزية طرف من هذه وطرف من تلك أيضاً: فقد تأثر بعض شعراء الإنجليزية بالمثل العليا الأخلاقية التي سنتها المسيحية، بجانب تلك التي أثرت عن الوثنية، وظهر اثر ذلك في أشعار سبنسر الذي جعل كل فارس في ملحمته (الملكة الحسناء) عنواناً على فضيلة من الفضائل المسيحية. وبدا ذلك أيضاً في أدب عهد المطهرين، ففي كتاب (رحلة الحاج) لبنيان تتشخص الفضائل والرذائل على ذلك النحو، ثم كان تنيسون وكبلنج يمزجان النزعة المسيحية بالنعرة الوطنية؛ وظهرت في الأدب الإنجليزي بجانب ذلك نزعة الاستهتار والمجون في بعض الفترات، كما حدث في بعض القرن السابع عشر من جراء التأثر بالبلاط الفرنسي المترف، وفي أواخر القرن التاسع عشر من جراء التأثر بالأدب الفرنسي أيضاً، إذ نزع بعض القصصيين الإنجليز كأوسكار وايلد إلى ذلك الضرب التحليلي من القصص الذي يسرف في تصوير الذات، واستكناه دنئ العواطف وخسيس النزعات
على إن كلا الأمرين - اعني التمدح بكريم الأخلاق والمجاهرة الاستهتار والتبذل - كانا ضئيلي الأثر قصيري العمر قليلي الاتباع في تاريخ المجتمع والأدب الإنجليزي، فالتشدق