ففي شأن التاريخ أيضاً نستطيع أن نقول: إن الأبحاث العلمية التي تتوخى معرفة الحقائق التاريخية شيء، والشؤون التعليمية التي تتوخى نشر تلك الحقائق شيء آخر. ومهما بالغنا في القول بأن (التاريخ) يجب أن يكون الغرض منه معرفة الحقائق معرفة مجردة عن كل غاية، لا نستطيع أن نقول ذلك في (تعليم التاريخ)، بحال. بل لابد لنا من التسليم بأن هذا التعليم يجب أن يوجه نحو غايات تربوية واضحة. . على أي حال.
ويجب أن نلاحظ زيادة على ذلك، أن الغايات التربوية التي يُرمى إليها من (تعليم التاريخ) كبيرة وخطيرة جداً، لأن المعلومات التاريخية تمتاز عن سائر المعلومات بالتأثيرات العميقة التي تحدثها في الشعور القومي والحس الوطني، وبالأدوار العامة التي تلعبها في تكوين القومية الوطنية.
فإن شعور الأفراد نحو أمتهم ووطنهم لا يتأثر بمعرفتهم أو عدم معرفتهم للحقائق الطبيعية مثلاً؛ غير أن شعورهم هذا يتأثر تأثراً شديداً من علمهم أو عدم علمهم بالوقائع التاريخية التي تعاقبت على الوطن والأمة في سالف الأزمان.
ويمكننا أن نقول: أن الشعور القومي يستند على (الذكريات التاريخية) أكثر من كل شيء آخر. ونستطيع أن نؤكد أن (الأفكار والمعلومات المتعلقة بالتاريخ) تلعب دوراً هاماً في حياة الأمم، وتؤثر تأثيراً كبيراً في سير حوادثها.
ولهذا السبب نجد أن الأمم المتمدينة بأجمعها تهتم بالتاريخ اهتماماً عظيماً. فهي لا تكتفي بالتذكير بالماضي بواسطة الدروس والمؤلفات بل تبذل أنواع الجهود لإقامة التماثيل والأنصاب، بقصد (تجسيد وتخليد الذكريات)؛ كما تنتهز جميع الفرص لإقامة الاحتفالات، لإحياء ذكر بعض الوقائع التاريخية، بقصد استثارة انتباه الشعب وإيقاد نار الذكريات القومية في قلوب الناس.
كما نشاهد أن الدول المستعمرة، عندما تستولي على أمة من الأمم، تحاول أن تدعم استيلاءها العسكري باستيلاء معنوي، وتعتبر السيطرة على (المعلومات التاريخية) من أهم وسائل هذا الاستيلاء. ولذلك، حالما تنتهي من الأعمال التي تمحو بها الحكومة المحلية وقواها المختلفة، تأخذ في تصويب سهامها نحو (التاريخ القومي)، وتبذل كل ما لديها من