للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

في هذا المضمار.

وإذا تجلت آثار هذه النزعة الآن عند فريق من الأمم بوضوح أكبر فما ذلك إلا لأن هؤلاء غيروا نظام حكمهم حديثاً فاضطروا لذلك إلى القيام بتكييف تاريخهم لمقتضيات هذا النظام الجديد بصورة فجائية وعلى رؤوس الأشهاد، في حين أن غيرهم أقدموا على مثل هذا العمل قبلهم، فأوجدوا لأنفسهم تاريخاً مكيفاً بمقتضيات الوطنية، منذ مدة غير يسيرة من الزمن. . . فيمكننا أن نقول: إن الفرق بين الفريق الأول والفريق الثاني ينحصر في تاريخ عملهم بهذه النزعة، لا في انقيادهم إليها أو انصرافهم عنها.

ومن الغريب أننا نجد بين مفكري الفريق الثاني من الأمم من ينتقد بشدة الخطط التي يتبعها الفريق الأول في هذا الباب. غير أننا نشبه انتقادهم هذا بعمل بعض الأمم المستعمرة التي تستهجن فكرة الاستعمار عندما تشاهد آثارها عند غيرها، مع أنها كانت ولا تزال من آباء الاستعمار وأبطاله، ومع أنها تنعم بخيرات مستعمرات كثيرة ولا تتوانى في التوسل بجميع وسائل العنف والشدة لإدامة سيطرتها عليها.

فيجب علينا ألا ننخدع بمثل هذه الدعايات والانتقادات السياسية وأن نعلم علم اليقين أن تكييف دروس التاريخ بمقتضيات القومية والوطنية من الخطط التي تعمل بها جميع الأمم من غير استثناء، ومن الخطط التي تتحتم على جميع الأمم المستضعفة بوجه خاص. . .

هذا ويجب أن نلاحظ في الوقت نفسه أن (التكييف) الذي نشير إليه لا يستلزم (الاختلاق). لأن (الانتخاب والإبراز) وحدهما يكفلان (التكييف) ويكفيان (للتوجه) بوجه عام.

وذلك لأن الوقائع التاريخية تؤلف سلسلة طويلة لا مجال لتحديدها، بل شبكة معقدة لا حد لتعقيدها، فعدم ذكر الوقائع بأجمعها - قصداً أو اضطراراً - واختيار بعضها أو تفصيله أو اختصاره - كل ذلك مما يغير منظر الوقائع وتأثيرها النفسي تغييراً كبيراً، كما تتغير الألوان حسب مشيئة المصورين، تبعاً لتغيير أنواع الأصباغ التي تمزج بعضها ببعض من جهة، ولتغير نسب هذا المزج من جهة أخرى.

ولذلك نستطيع أن نقول: إن عملية الاختيار والإبراز، إذا كانت من الأمور المهمة في جميع فروع التعليم، فهي في منتهى الأهمية في تعليم التاريخ.

لنذكر مثالاً بسيطاً لتوضيح تأثير عملية الانتخاب والإبراز في مثل هذه الأمور لنفرض أننا

<<  <  ج:
ص:  >  >>