للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الدائرة التي يدور فيها، وينتهي حيث يبتدئ، بل أنه يكشف عن عجزه ويدل على ضعفه ولا يتمخض بعد الجهد الشاق والعناء العنيف عن غير ما تطيقه مؤهلاته وما تنتجه قريحة مثله، ومثل هذا النقاش يحسب غروره وحياً وطمعه عظمة الروح وعلواً في النفس

وشتان بين الاثنين! إحداهما كالنحلة لا يغذيها إلا الرحيق ولا تهيم أو تسعى إلا وراء الشذى الذكي والعبق النقي والعرف الندي، ولا يستهويها إلا الزهر المنور والجو المعطر؛ والآخر كالزنبور الطنان يقع على الأقذار ويستطعم الأدران ويأكل الحشرات والديدان.

والنحلة تنتج رحيقاً من رحيق، والزنبور أذى وشرا. تلك رمز التضحية والغيرية، وهذا عنوان الأنانية والأثرة؛ تلك متواضعة خجولة تعمل في رصانة وسكون، وذلك مدّع مغرور صخاب طنان بهرجت الطبيعة من ألوانه وعددت فيها للنميمة عليه والإيقاع به أو لتفاديه

فلا تستصغرن من النحلة اندماج لونها وهدوئها؛ ولا يغرنك من الزنبور بروزه وطنينه.

وكذلك لا يغرنك من الصورة بهرجة الدعاية لها بل ابحث عن الغاية المجيدة وعن التعبير الصادق الجميل.

كثيراً ما يتفق الناس على أن هذه المرأة جميلة، وأن تلك دميمة، ويكادون لا يختلفون في حكمهم، فما الذي جمع بينهم على رأي واحد؟ قد يحتج بأن هذه هي أذواقهم وهذه أمزجتهم وأنهم يرون أنها جميلة لأن هذا إحساسهم فلا تطلب تعليلا ولا تحليلا، وفي الحق أن المرأة الجميلة تعجبنا لأول ما نراها لأن قلبنا يهفو إلى حسنها، ونفوسنا تصبو إلى جمالها، ولكننا نتفق في النزوع إلى جمالها والصبابة إليها بدافع من الغريزة فالغريزة هي في الواقع التي تؤلف بين الرجال على الإعجاب بجمال المرأة أو هي على الأصح التي كانت منذ الزمن الأول ترغب الرجل في المرأة؛ فلما ارتقى وهذب من غرائزه وتسامى بها عن أن تكون مطلقة الحيوانية تغير إلى حد كبير نظره إلى المرأة فأصبح يجل جمالها لذاتها مجرداً عن دافع الشهوة، وبعدت عن خياله تلك الصور التي كانت تجسمها الغريزة الجنسية وتمثلها الرغبة الحيوانية، فلم نعد نسمع شاعراً يتغنى بثقل الردفين وانقطاع الخصر وكثيب الرمل ولم نعد نسمع قول بشار بن برد:

أو عضة في ذراعها ولها ... فوق ذراعي من عضها أثر

أو لمسة دون مرطها بيدي ... والباب قد حال دونه الستر

<<  <  ج:
ص:  >  >>