ولم نعد نسمع تلك النواسيات الماجنة وما إليها من دلائل الاحساسات البهيمية، وإذا بنا تطرق قلوبنا هذه الأغاني الخالدة التي تسمو بأرواحنا، إذا بنا نسمع قول العقاد يقول:
أغلى جمالك في النواظر أنه ... عوض لشين في النفوس كثير
وأنا له منها المقادة أنه ... في الأرض رمز كمالها المحظور
وقوله: -
أن التعاطف بالأرواح بغيتنا ... وفي القلوب على الأرواح عنوان
وقوله: -
فعش في جوار الناس شخصاً مجسماً ... وعش في فؤادي صورة تتخيل
فالغريزة هي الأصل في الإعجاب بشيء دون شيء، ولما تهذبت وارتقت استحالت إلى ما نسميه نبلاً أو ذوقاً رفيعاً وإن بقيت للغرائز الأولى بعد نزعاتها.
ولكن هذا الذوق له فصول وأسس، وله قواعد وقوانين تظبطه وتحده، فلم يعد جمال الجسم الإنساني صباحة وجه، وسطوع جبي، وامتلاء جسم أو نحافته، أو غير هذه الأوصاف من المعاني المطلقة، بل وضعت له مقاييس وأطوال - وإلى هنا يكون للذوق ضابط يحفظه في حدود مرسومة، ولكنه لا يخضع لها خضوعاً مطلقاً ولا ينكمش بين تلك الأعلام والأوضاع الضيقة إذ أنه يكون بذلك جامداً كزاً ذا وجه واحد. ولكن ذلك الجمود يتحرك ويحيا بما ينفخ فيه من روح، وما ينفث فيه من سحر، فيتخذ صوراً متباينة مختلفة، وإن كانت كلها تدور في حدود هذه الأوضاع، ولكل وجه سيماه ضربت المثل بجمال الجسم الإنساني ممثلاً في المرأة لأنها مركز اهتمام الرجل، ولأن الاتفاق على مقياس الجمال فيها يكاد يكون مفروغاً منه. وكلما بعد موضوع الحكم عن أن يكون ذا صلة بغريزة من الغرائز، أو بعلاقة مباشرة بعاطفة فسيولوجية أو نفسية، تعقد الموضوع، وصعب الاتفاق على حكم واحد فيه، واختلفت الأذواق: فهذا ذوق جميل يصدر حكماً صائباً، وذلك ذوق فاسد مضطرب الحكم، ولهذا السبب كان لا مناص من أن يوضع لكل شيء حدود يصدر الحكم على أساسها، فالشجر والنبات، والنهر والشلال، والغدير والبحر، والمحيط والجبل، والسماء والسحاب، والأبنية والعمائر. لكل هذه المظاهر أصول وقواعد يؤدى الفن في حدودها، وكانت هذه الأصول على ذلك ضابط الذوق إلى حد محدود، فكأن الذوق الجميل لم ينشأ نشأة لدنية، بل