للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إلى حق، ولا ترعوى عن غي، ورأى أهل مصر أنهم حيال نوع جديد من الحكم، لا تنفع فيه النصيحة ولا تستقيم معه الأمور على الشفاعة، ولم يكن للشعب بعد أن عجز عن النصح إلا ذلك الحق الطبيعي الذي للشعوب وهو أن يرغم الحكام على الإصلاح، وهكذا رأى أهل مصر إلا ملجأ لهم من طغيان إبراهيم ومراد، إلا أن يلجئوا إلى القوة والثورة.

بعد مضي سنة واحدة من حكم الطاغيتين، ثارت مسألة في خلاف على وقف، ولم يكن للمسألة في ذاتها خطر خاص، بل كان القصد منها نضالاً على مبدأ قانوني وهو: هل يجوز للأمير القوي أن يدل بقوته ويثور على القانون فيعصاه، أم لا بد له من الخضوع للقانون ولو كان خصمه ضعيفاً لا سند له من سلطان الدولة، وكانت الخصومة بين رجل من أفراد الشعب، وأمير من كبار الأمراء من عصبة الطغيان، واعتصم الرجل الضعيف بالشريعة فلجأ إلى القضاء، ولوح الأمير القوي بالقوة والبطش، وحكم الشرع للرجل الضعيف، فأبى الأمير الإذعان للحق؛ وأصبح الأمر معلقاً بين أن ينتصر القانون، وبين أن تجتاح القوة كل سياج وكل حرمة.

فأدرك العلماء أن واجبهم يناديهم - وهم ممثلو الشعب والطبقة المستنيرة منه - بالمحافظة على القانون والحق، ولم يترددوا لحظة، بل هبوا لنداء الواجب، وتصدر فيهم زعيم اسمه الشيخ الدردير، رحمه الله وطيب ثراه، فأرعد الأمير المدل وابرق، وأرغى وأزبد، ونهر وتوعد، فوقف العلماء وثبتوا، وأرغوا وأزبدوا كذلك، وقام الشعب من ورائهم يؤيدهم. وكانت مظاهرة كبرى، فأغلق الناس حوانيتهم لينظروا مآل النضال بين الحق والقوة، وأوشك الأمر أن يؤدي إلى فوضى شاملة، لولا أن جزع عقلاء الأمراء من ذلك الاضطراب، وأشفقوا من تلك الحال فاجتمعوا وتشاوروا ثم أرسلوا إلى الأمير المعاند فلاموه على وقفته، وأمروه بالنزول على ما أراد القانون، فأذعن وهو كاره بعد مشادة عنيفة، ولم يرض العلماء أن يدعوا الأمر يفلت من أيديهم بغير حق مسجل يكتسبونه للناس، فطلبوا أن تكتب لهم وثيقة بالحق المكتسب، وكتب لهم صلح رسمي به شروط على الأمراء، وتعهد من الحكام بالتزام ما يقضي به القانون ويحتمه العرف.

وقد أثرت أمثال هذه الصيحة في الأمراء، فصاروا يخشون الشعب خشية عظيمة، حتى إنه عندما أشيع مجيء الحملة التركية لإصلاح الحكم في مدة مراد وإبراهيم بقيادة القبودان

<<  <  ج:
ص:  >  >>