للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يصافحونني بحرارة. وهنا دخلت الجواري حاملات في أيديهن الصواني الطافحة بأنواع شتى من المرطبات، ثم تقدمت إحداهن فتصدرت الثوى وبدأت تطربنا بصوت عربي جميل يسيل رقة وليونة على حين كنا نتلذذ بالشراب المثلج سكارى من رائحة التبغ ومسرات الغناء.

والواقع أن هذه الأغاني الشعرية الرائعة هي إحدى عوائد العرب القديمة التي ما برحت نافذة إلى عصرنا الحاضر دون تغيير ولا تبديل. فالعرب عن بكرة أبيهم ميالون بفطرتهم إلى الشعر، ففيه الحكمة التي تأخذ بمجامع اللب، وله تأثير خاص على الحواس والمشاعر. مع أنهم في أحاديثهم الخاصة يلجأ ون إلى استعمال اللغة الدارجة، وهي لهجة معقدة ليس في وسع كل إنسان أن يتفهمها بمجرد سماعها. وقد يتعذر على كثير من الناس أن يتذوقوا طلاوتها لأول وهلة، رغم أنها حافلة بالألفاظ العذبة والنكات السمحة، أما الشعر العربي فيدور كله حول الغزل، ويرجع الفضل في ازدهار حركة الشعر الغزلي إلى عمر بن أبي ربيعة الملقب (بدون جوان جزيرة العرب).

وكانت الفتاة قد انتهت من غنائها فنهضت وغادرت الثوى ثم تقدمت أخرى وأنشدت قصيدة غرامية تفيض بالعواطف الذاتية، وبعد ذلك خيم الصمت والسكون، ولم يعد يسمع غير أصوات تقلب المياه في جوف النارجيلة، وأصوات التنهدات والزفرات وهي تخرج قوية حارة من صدور الرجال وراعني هذا الصمت العميق الشامل، وأحسست أني تحت تأثير قوة مغناطيسية لا قوة لي على دفعها أو ردها، وراعني أيضاً أنها كانت حالة جميع الضيوف تقريباً، فلقد رأيت أنهم يتوجعون ويتأوهون، ولاحظت أن البعض منهم يئن من لوعة الفراق، ويتذكرون خليلاتهم، فاقتربت من أحدهم ويدعى الكتبي وسألته على الفور:

هل أنت مغرم يا صاحبي إلى هذا الحد؟ فأحنى رأسه ولم يحر جواباً لأول وهلة، ولاحظت أن وجهه احتقن بالدم ثم سمعته بعد لحظة يقول:

ولكن ليس في وسعي أن أملكها، فأنا كما ترى رجل فقير، وهي من عائلة مثرية. ما حيلتي وقد وقعت في شراك غرامها وأصبحت أسير هواها؟ لقد أصبحت أسير امرأة. . .

وكف عن الحديث فجأة، فطيبت خاطره وقلت له:

- ولكن المرأة التي تشير إليها ليست كسائر النساء

<<  <  ج:
ص:  >  >>