كثيراً على حسن ظنه بي فأرسل له دائماً بطاقات الانتساب للمكاتب ودور العلم موقعة من قيميها ومحافظيها وهو دائماً يحتفظ بها حتى يتوفر لديه منها صندوق.
ولقد وصلت هذا الصباح ناشطاً أكثر مني في بقية الأصباح وكأن سوء الطالع كان يرافقني للقضاء على هذا النشاط المنبعث من قرارة نفسي فسبب لي بلية ما كان اشغلني عنها وأغناني!. .
تنتصب إلى جانبي سدة قيم المكتبة أريكتان تحملان أوراق الطلب وأقلام الكتابة وقادتني خطاي إلى الأريكة اليمنى ويا ليتني لم أقصدها، إذن لكنت في نجوة عما أنا فيه الآن من أسف وندامة.
أخذت الريشة المتصلة بسلسلة نحاسية وخططت بغير وضوح كثير أسم الكتاب والمؤلف الذي أتوخى مطالعته وأعدت الريشة إلى مكانها، ولكن ما أدري والله كيف أركزتها ولعلها فقدت اتزانها فاضطربت وتدحرجت السلسلة والريشة وأني لأسمع صوتها. . . لقد ارتجفت وندت نقطة حبر كبيرة. . . على. . . على كتاب أثري. . . أمام أحد الأعلام الشيوخ!. . وإن كنت أذكر لا أذكر إلا انتصاب هذا الإنسان الأبيض الهزيل في ظلام مقعده صارخاً:
- يا للغباوة!. . لقد لوثت الكتاب الأثري!
وملت إلى المقعد أتفحص فعلتي التاعسة فوجدت أن نقطة الحبر السوداء القاتمة قد استقرت على غلاف الكتاب إلى جانب اسمه المذهب، وها هي ذي تتفرطح فتتشعب إلى ما يشبه المغزل والسنان وأشكال مختلفة، وهنا وهناك انتثرت نقاط صغيرة وتوزعت على صفحته كما تنتثر النجوم في السماء. وإذا ببعض الخطوط تتجمع فتشكل أخدوداً ينحدر فيه الحبر إلى أسفل الصفحة. وتطلعت فإذا أنا محاط بهالة من القراء وكلهم ينظرون إلي بعين متفحصتين فجمدت عروقي وسمرت في مكاني لانتظار الفضيحة وتمتمت بكلمات اعتذار وأسف كانت لا ترد علي ما فات. وأما قارئ الكتاب فلم ينبس ببنت شفة وكأنه قد فقد الحركة وكنا ننظر سوية إلى تشكل البقعة ونرود بأعيننا خطوط جريانها وانبثاقها على الصفحة وكأنه قد عاد إلى مداركه بعد استقرار البقعة واستكمال الملاحظة فاهتز اهتزازة محمومة وتناول من جيبه ورقة نشاف وشرع يمتص برجفة عصبية لطوخ الحبر ويعالجها بدقة الممرضة تضمد جراحاً. واهتبلت الفرصة لا تقهقر إلى الصف الثالث من المقاعد