وهنالك أمر ذو خطر يتصل بمنهج اللغة العربية ذاتها، ولا مناص من الالتفات إليه؛ ذلك هو ترتيب المنهج وتوزيعه على سني الدراسة المختلفة، ولا أعني هنا الكم والمقدار، إنما أعني الكيف والطريقة.
إن الأستاذ أحمد أمين قد قصر نقده للمناهج على المادة دون الموضوع؛ فراح يتهم قواعد النحو والبلاغة في مادتها وتقسيمها دون نظر إلى مؤداها وغايتها وموضوعها من مراحل التعليم.
إن الآفة والعلة والداء ليست في قواعد البلاغة ومصطلحات النحو وفصول الأدب؛ فما نحن بمسئولين بأن نجعل هذه المقاييس اللغوية تسلية وملهاة يتلهى بها التلميذ في وقت بطالته وفراغه كأنها قصة أو فكاهة، فما هذا موضعها من العلم ولا مكانها؛ ولكن العلة والآفة والداء أننا نعلم التلميذ قواعد اللغة قبل أن يعرف شيئاً من اللغة أو يقرأ منها قدراً صالحاً ليعينه على الفهم والمحاكاة؛ وإننا ندرس له البلاغة قبل أن نقدم له النماذج الكثيرة من الكلام البليغ التي تنبه فيه ملكة النقد قبل أن نعطيه قواعد النقد ومقاييس البيان الرفيع، وأننا نجرعه مصطلحات الأدب وفنونه قبل أن يتذوق الأدب نفسه. هنا العلة فلنلتمس لها الدواء قبل أن نفكر في حلاوته أو مرارته.
إن قواعد النحو، ومصطلحات الأدب، وفنون البلاغة، كفلسفة القصة من القصة: لا ينبغي التفكير فيها والمعاناة في استخراجها قبل الفراغ من القصة نفسها، والحكم على الشيء فرغ من تصوره، كما يقولون؛ فصوروا للطفل آداب لغته قبل أن يعطوه هذه المقاييس الصماء ليزن بها ما ليس في يده.
إن هذه المناهج بعيدة من الطبيعة بعد الغاية التي وصلنا إليها من الغاية التي إليها نقصد؛ وإنما ينبغي حين نريد تعليم اللغة العربية على منهاج صحيح أن نحاكي الطبيعة الخالقة في منهاجها الواضح؛ والطبيعة قد أملت علينا الطريقة التي يجب أن نأخذ بها كل ناشئ يتلقى لغة من اللغات، ففرضت عليه أن يمر في أطوار التعليم بثلاث مراحل: السماع والتلقين، ثم المحاكاة والتقليد، ثم الابتكار والإنشاء. فأن الطفل يولد وله صوت وسمع وليس له بيان، ثم يأخذ بمحاكاة الأصوات التي يسمعها؛ فإذا تكونت له أعضاء النطق أخذ يلقف الكلمات