للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مما يسمع من أهله فيرددها كما سمعها بلهجتها ونبرها، ثم يتدرج من ذلك إلى التعبير عن حاجته باللسان الذي يتحدث به من حوله؛ على أن قاموسه في ذلك لا يعدو كلمات قليلة على مقدار وعيه وحفظه وقدرته على التقليد؛ وكلما تقدمت به السن واتسعت الدائرة التي يضطرب فيها ويستمع إليها ويلقف منها زاد محصوله اللغوي؛ ثم لا يلبث أن يلم بكل معنى وبكل لفظ وبكل عبارة، فيتحدث كما يتحدث الناس، لا يعجزه ان يفهمهم ولا يعجزون، وحينئذ يتم تمامه اللغوي في اللغة التي يتحدث بها أهله.

هذه هي الطبيعة الملهمة وطريقتها في إعداد الطفل إلى تلقي اللغة والفهم عنها والإبانة بها. فأين طرائقنا من هذه الطريقة التي فرضتها الطبيعة على كل إنسان ناطق. . .؟

وعلى هذا المنهج الطبيعي نفسه تخرج الخالدون من أدباء هذه الأمة، فبلغوا ما بلغوا وخلفوا لنا هذا التراث الباقي على الزمن من الشعر والأدب. وطريقة الأخذ عن الرواة هي طريقة الطبيعة نفسها، وهي هي كانت كل ما يؤهل الأديب أو الشاعر إلى التبريز في الأدب والإجادة فيه. وما كان الأصمعي وأبو عبيدة والقالي وغيرهم ليعلموا تلاميذهم أول ما يعلمونهم - المحادثة والإنشاء والقواعد والتطبيق، إنما كانت دروسهم في حلقات الدرس والرواية هي هذه الأمالي الباقية من جيد الشعر والخطب والأمثال والقصص، أما النحو والصرف وقواعد البلاغة فكانت شيئاً من وراء ذلك لا ينظر إليه إلا عند الحاجة، وهي اليوم عندنا أول الطريق وأخره.

وأمامنا الأمثال في كل جيل وفي كل عصر من عصور العربية ترشدنا إلى الطريق التي يجب أن نسلكها في تعليم العربية، ولكننا نغمض عنها أعيننا ونضرب في البيداء، ومع ذلك ما ننفك نسأل أنفسنا:

(أين ومتى نبلغ الغاية؟)

وهل بلغ البارودي وحافظ وإضرابهما ذلك المبلغ من الشعر والأدب بالقواعد والتطبيق ومعالجة الإنشاء، أو بالاطلاع والرواية والحفظ من مأثور النظم والنثر؟

ينبغي أن نعلم العربية على الطريقة التي يتعلم بها الطفل أن يتكلم؛ فلتكن دروس العربية الأولى أن نتحدث إلى التلميذ ثم نسأله أن يتحدث، وأن نحمله على المطالعة ثم نطلب إليه أن يكتب، وأن نقدم له الغذاء من متن هذه اللغة ومن أساليبها في أقاصيص صغيرة مسلية

<<  <  ج:
ص:  >  >>