للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كتب منتسكيو بضع عبارات بالغة منتهى الجودة والإبداع حلل فيها نفسيته، وصور بها أخلاقه ويحسن بنا أن ننقل بعض فقرات منها؛ وذلك أقوم سبيل تعرف به شيئاً من حقيقة منتسكيو:

يقول أنه وهب حساً عميقاً جعله يقدس معنى الصداقة، فلم يجازف بإن يخلع نعت الصديق على كل من أتصل بهم من الناس؛ ولذا يذكر، ولعله يذكر بحق، أنه لم يفقد طوال حياته غير صديق واحد.

وكان خجولاً، حتى أن الخجل كان مصيبته الخلقية الكبرى؛ قال:

(يخيل إليّ أن الخجل يغشّي على كل أعضائي الجسمانية، فيربط لساني، ويظلم افكاري، ويقضي على كل ما عندي من قدرة على التعبير. ومن العجيب أني أقل تعرضاً لنوبات الخجل في حضرة ذوي الألباب مني في حضرة الحمقى والمغمورين)

فلا عجب إذن إذا رأينا (منتسكيو) يمقت كل المقت ذلك الجو الخانق الذي كان يأنسه في البطانات الملكية؛ قال:

(لم أجهد نفسي في أن أسعد وأربى من طريق البطانة. وإنما أمَّلت دائماً أن أثري من عملي في ضياعي، وأن أتلقى الخير من يد الآلهة لا من يد البشر).

وليس لنا بعد هذا أن نعجب من أن (منتسكيو) كان لا يرى سبيلا للفرار من متاعب الحياة إلا بالنزوع إلى أسمى ما تتجه إليه الأنفس الأبيَّة، المتطلعة إلى المثل العليا، والغايات السامية؛ قال: -

(كان الإكباب على الدرس والتحصيل الدواء الواحد الذي استطعت أن أنجو به من كثير من مرارات الحياة. ولم آنس في الحياة من حرج، لا تكفي ساعة واحدة اقضيها في القراءة، لكي تذهب بكل آثاره من نفسي)

وكان عريض الأمل، شامل النظر، كلي المرامي، أنساني النزعة، فإن الثورة الفرنسية، وهو من اكبر الممهدين لها، لم تلبث أن استقوت عليها بعد قليل الروح القومية، فأسلمت نابليون قيادها، وألقت بين يديه بروحها؛ تلك الروح التي كانت أكبر الأسباب في انتصاراته؛ غير أن سيل الفكر الجارف الذي تقدم شبوب الثورة، كان من غير شك، ذا صبغة إنسانية. ومن كلمات منتسكيو ننقلها هنا يتضح لك الاتجاه الحقيقي للفكر الفرنسي

<<  <  ج:
ص:  >  >>