للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قبيل الثورة العظمى؛ قال:

(إذا وضح لي أن شيئاً من الأشياء لي فيه نفع، ولكنه مضر بأسرتي، فإني أنفيه من عقلي، واطرده من مخيلتي. وإذا وقعت على شيء نافع لاسرتي، ولكنه مضر بوطني، فإني اجتهد في أن أنساه. أما إذا سقطت على شيء مفيد لوطني، ولكنه مضر بأوربا، أو بالسلالة البشرية، فاقل ما اعتبر أن نيله جريمة كبرى.)

وكان لمنتسكيو نظرات فلسفية عميقة في حقيقة الخلق الإنساني، طبقها واتخذها في الحياة إماماً. وكان ككل الفلاسفة العمليين الذين درجوا من قبله يعتقد أن اللذة والألم دستور السلوك الإنساني. ولكنها اللذة التي لا تطفر فتصير شهوة، والألم الذي يحتمل بصبر وشجاعة في سبيل تحقيق المثاليات؛ وقال:

(إن دورة عقلي قد هيئت، لحسن الحظ، بحيث تجعلني شديد الحساسية فأتأثر بالأشياء ابتغاء الاستمتاع بها. ولكن لم تبلغ حساسيتي بالأشياء حداً يجعلني أتألم من فواتها)

من هنا نستطيع أن نؤلف صورة تدلنا على شيء من حقيقة (منتسكيو)، وهذا كافٍ للتعريف به. ولهذا ننتقل إلى الكلام في مبادئه ونظرياته السياسية، فإنها أخص ما يعلق بالذهن كلما ذكر أسم (منتسكيو)

إذا شرعت تقرأ كتاب منتسكيو (روح القوانين)، وضحت لك صورتان جليتان: الأولى، رجوعه في التدليل على نظرياته إلى التاريخ؛ والثانية: نزعته إلى أحكام الآخرة بين النظرية السياسية، والعلوم الطبيعية. وللصورتين أهميتهما القصوى في التعريف بمنتسكيو ودرس مذاهبه. ناهيك بأنهما بداية ذلك التطور الفكري الكبير الذي تناول منازع هذا الرجل العظيم منذ نشأته مُفكِّراً، حتى تمام تكوينه كقوة عظيمة، أثرت ولا تزال تؤثر، في مناحي الفكر والعمل الإنساني

كان (منتسكيو) مفرط العناية بقراءة التاريخ. ولن تبالغ إذا قلت أنه كان بالتاريخ أشد هياماً من (روسو). ذلك إلى أنه أوسع من (فولتير) نظراً، واشمل إحاطة، وانزع إلى معالجة المشكلات الاجتماعية. ومع كل هذا فإن معرفته بالتاريخ مقيسة على مفهومه الحديث، كانت ضيقة محدودة. وكان من المحتوم أن يكون علمه بالتاريخ ضيق الحدود؛ إذا وعينا أن التاريخ الحديث خلق جديد من مخلوقات القرن الثامن عشر

<<  <  ج:
ص:  >  >>