للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كانت معرفة (منتسكيو) بحوادث التاريخ تامة، بالغة منتهى الضبط والإحاطة. ولقد حوى كتابه (عظمة الرومان وانحطاطهم) أسمى صور البلاغة، وجمال الأسلوب. بل إنك لا تقول شططا إذا قضيت بأن اكثر النظريات التحليلية التي بثها فيه (منتسكيو) عند الكلام في أربعة القرون التي أظلت نشوء النصرانية، سبقاً وتعقيباً، كانت عادلة متزنة، لا هي إلى الإفراط ولا هي إلى التفريط، ولقد كتبت الفصول الأولى من هذا الكتاب في عصر لم يكن سلطان النقد قد تناول فيه التاريخ بعد؛ فإنه كتبها قبل ظهور كتاب (تييوهر) الذي يعد الفتح الأول للنقد في مجال التاريخ. وكانت آراؤه في القيصرية الرومانية الغربية وسبب انحلالها نفس الآراء التي ذاعت في سبب انحلال القيصرية البوزنطية. وتلك وجهة من النظر التاريخي ذاعت في القرن الثامن عشر؛ ومن حسن الحظ أن البحوث التي ظهرت في خلال نصف القرن الماضي، قد طهَّرت منها عقول المؤرخين، تطهيراً كاملاً

وكان (منتسكيو)، إلى هذا، محيطاً بتاريخ رومية أوسع إحاطة، فاهماً جوهره أقوم فهم، ملماً بعناصره أمتن إلمام. ولكن معرفته بتاريخ اليونان كانت بغير شك أقل من معرفته بتاريخ رومية. وكتاباته في تاريخ العصور الوسطى؟، لا تخرج عن كتابات مُلِمٍّ بالآثار البدائية (الأرخيولوجيا) لا بالتاريخ

أما معرفته بتاريخ فرنسا فكانت شاملة، وبخاصة تاريخها في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ ولا شبهة في أنه كان محيطاً بتاريخ العصر الذي عاش فيه. وكان شديد العناية بدرس تاريخ إنجلترا، مشغوفاً بمسائله ومشكلاته. ولكن نظرته فيه كانت شاذة بالرغم من طرافتها

ولم يهمل (منتسكيو) التاريخ العام، الذي يعتبر تاريخ رومية وفرنسا وإنجلترا، أجزاء منه ونتفاً؛ بل زوده بعناية الدرس والتحصيل. فإن تاريخ مصر وبابل والهند والصين واليابان وشعوب خط الاستواء، وشعوب الجمد الشمالي، كانت ماثلة له حية في مخيلته. ولكن لم يكن الزمان قد زود المشتغلين بالتاريخ بعد بمادة يستخرجون بها من ماضي الشعوب صوراً واضحة جلية

يظهرنا هذا على أن عنايته بالتاريخ كانت كبيرة ولكن من الخطأ أن نتصور أن فلسفته السياسية كانت مستمدة من معرفته بالتاريخ، أو مستندة إليها؛ فإنك إذا مضيت تماثل بين ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>