للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مأتم جار من العامة ليعزيا أهله؛ والمعروف عن الرافعي أنه كان يكره حضور المأتم وتقديم التعازي كراهة ظاهرة؛ وقلما كنت تشاهده في مأتم إلا في النادر، حتى أنه لما توفيت زوج ابنه الأستاذ سامي الرافعي لم يجلس في المأتم إلا لحظات، ثم أنفرد في خلوته يستوحي الحادثة مقاله المعروف: (عروس تزف إلى قبرها!) وجاء المعزون يلتمسون الأستاذ الرافعي فلم يجدوا إلا ولده وصهره. أفكان الرافعي بحضور هذا المأتم في يومه الأخير يريد أن يصل نسباً أو يعقد آصرة بالعالم الثاني؟ أو كان ميعاداً إلى لقاء قريب. . .!

ثم ذهب الرافعي بعد التعزية إلى موعد صديقه ماشياً، وقطعا الطريق إلى المتنزه على الاقدام؛ فتفرجا، وشاهدا ما شاهدا في الحفلة الراقصة، وأخذ الرافعي ما اخذ من وحي الراقصات لفنه ومادته الأدبية، واخذ صديقه ما اخذ؛ أفكان بهذه الحفلة يريد أن يصل ما أنقطع من قصة (الجمال البائس) و (القلب المسكين) و (في اللهب ولا تحترق). . .؟

وفي منتصف الساعة الثانية عشرة كان الرافعي في طريقه إلى بيته بعد ما ودع صديقه في منتصف الطريق؛ فلما بلغ الدار خلع ثيابه، وتناول عشاء خفيفاً من الخبز والبطارخ، والبطارخ طعام الرافعي الذي يحبه ويؤثره على كل طعام في المساء، لأن له عملاً أدبياً معه. . .!

واستيقظ مع الفجر على عادته كل يوم، فتوضأ وصلى، وجلس في مصلاه يدعو الله ويتلو قران الفجر. وأحس بعد لحظة حراقا في معدته فتناول دواءه وعاد إلى مصلاه، وصحا ولده الدكتور فشكا إليه ما يجد في معدته، وما كان إلا شيئاً مما يعتاده ويعتاد الناس كثيراً من حموضة في المعدة، فأعطاه الدكتور شيئاً من دواء وأشار عليه أن ينام، ولبس الدكتور ثيابه، ومضى ليدرك القطار الأول إلى القاهرة، ومضت ساعة؛ ثم نهض الرافعي من فراشه لا يحس ألماً ولا يشكو هما وما به علة، فأخذ طريقه إلى الحمام؛ فلما كان في البهو سمع أهل بيته سقطة عنيفة أحدثت صوتاً شديداً؛ فهبوا مذعورين ليجدوا عميد الدار جسداً بلا روح.

قال الدكتور محمد: (ولما وجدت البرقية تنتظرني في محطة القاهرة وليس فيها سبب ما يدعونني إليه، تحيرت حيرة شديدة؛ بلى أيقنت أن شيئاً قد حدث، وأن كارثة وقعت؛ ولكن لم يخطر في بالي أنه أبي. لقد تركته منذ ساعتين سليما معافى قوي القلب أقوى ما يكون

<<  <  ج:
ص:  >  >>