للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هناك ملاحظة تبدو في خطب علي وتظهر ظهوراً واضحاً إذا أنت وازنت بين خطبه التي قالها في أول النزاع وآخره،؛ فانك تجد خطبه التي قالها بعد التحكيم، والتي يستفز فيها القوم إلى حرب معاوية، ضخمة في ألفاظها، قوية في أسلوبها، متينة فخمة، أمتن وأقوى من تلك الخطب التي قالها في أول النزاع، وكانت خطبه تشتد وتقوى، كلما ضعف أمله في نصرة قومه، وزاد تواكلهم وتخاذلهم، وحسبك أن ترجع إلى خطبته التي قالها لرؤساء أنصاره ووجوههم بعد أن رجع من حرب الخوارج؛ أو إلى خطبته بعد أن أغار النعمان بن بشير على عين التمر، أو عندما أغار الضحاك بن قيس على الحيرة، أو حينما أغار سفيان بن الغامدي على الأنبار، واستمع إلى السيل المتدفق من فم علي حين يقول:. . . ألا وأني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وسراً وعلاناً، وقلت لكم أغزوهم من قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزى قوم قط في عقر دارهم إلا ذلّوا، فتخاذلتم وتواكلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهريا، حتى شنت عليكم الغارات، وملكت عليكم الأوطان؛ هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، وقتل حسان بن حسان البكري ورجالاً منهم كثيراً ونساء، وأزال خيلكم عن مسالحها، والذي نفسي بيده، لقد بلغني أن كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها، وما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندي فيه ملوما، بل كان به عندي جديرا

يا عجباً كل العجب! عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الاحزان، من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضا، تُرمَون ولا تَرمُون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله عز وجل فيكم وترضون، إذا قلت لكم إغزوهم في الشتاء، قلتم هذا أوان قر وصر، وإن قلت لكم: إغزوهم في الصيف، قلتم: هذه حمارة القيظ، أنظرنا ينصرم الحر عنا؛ فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون، فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال! ويا طغام الأحلام!! ويا عقول ربات الحجال! لوددت أني لم أركم، ولم أعرفكم، معرفة والله جرت ندما، وأعقبت سدما! قاتلكم الله لقد ملاءتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نُغَب التهمام أنفاسا، وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان. . . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>