تلك الفاجعة المؤلمة التي صورها كاتب فرنسا الكبير (برنادين دي سان بيير) أحس بدمعة حرى تتسايل على يده، فنظر فإذا غرازيلا تبكي جاثية عند قدميه، وإذا الشيخ وزوجه مطرقان كأن داهية دهياء حلت في تلك الساعة!
فكانت هذه الكآبة دليلا على رقة عواطفهم.
في إحدى الليالي تسلم رفيق الشاعر كتاباً من أمه تسأله أن يأتي إلى فرنسا لحضور زفاف شقيقته فرافقه لامرتين إلى نابولي، ثم ودعه وعاد إلى الفندق ليصرف فيه ليلته. غير أن لامرتين لم يكن يحس بالرابطة التي توثقه بصديقه إلا بعد أن فارقه. وعندما أقبل الصباح كان يقاسي آلام الشوق على سريره
وعلمت (غرازيلا) بمرض لامرتين فأسرعت إلى (نابولي) مع أخيها الصغير. ولم تكد تدخل عليه وتشاهد نحوله واصفراره حتى تفجرت بالدموع وجداً ولوعة. وبعد أن جلست قرب فراشه نزعت من جيدها أيقونة مقدسة وعلقتها فوق رأسه لتقيه من الموت، ثم خرجت متأثرة باكية تضرع إلى الله إلا يفجعها فيه!!
مضى على هذا الحادث أسبوع كامل شفي في أثنائه لامرتين من آلامه فعاد إلى منزل الشيخ. ولم يكد يطأ عتبة ذلك المنزل حتى أقبل أصحابه يعربون له عن تعلقهم ومحبتهم وإعزازهم. وكان في زيارتهم فتى في العشرين من عمره مشوه البنية، ولكنه طيب الأخلاق شأن أمثاله القرويين الذين لم تفسد المدنية عواطفهم. . . وسأل الشاعر عن أمره فقيل إنه ابن خال لغرازيلا، وإنه سوف يكون زوجها عندما تسمح الظروف. هنا شعر بمرارة خرساء تمزق فؤاده!
مالت الشمس نحو المغيب تاركة قبلة جرى على وهاد تلك الجزيرة الهادئة، وبمغيبها غمرت روح الشاعر سكينة عميقة ممزوجة بالأسى الساحق. . . وما أن صمم على ترك هذه الأسرة لتنعم بأحلامها وتأملاتها حتى وقفت غرازيلا والعجوز في سبيله قائلتين إنهما لا تسمحان له بمغادرة المنزل مادامت العائلة تعتبره فرداً منها. وظلتا تتوسلان إليه حتى رضى أخيراً.
وتسلل الحزن إلى روح الشاعر فأوى إلى حجرته ليذرف فيها دموعه. وكان عندما تهدأ ثورة عاطفته يلجأ إلى مذكراته فيبثها حنينه وشكواه!!