مرت على هذه الحادثة ثلاثة أشهر فعاد إلى الشاعر انبساطه الماضي لأنه استعاض عن صديقه المخلص بغرازيلا الحبيبة التي كان يقضي معها أيامه ولياليه على شواطئ تلك الجزيرة الشعرية الساحرة. وهنا شاءت الحياة أن تضرم لوعة الشاعر. . . ففي ذات ليلة عاد إلى المنزل فلحظ انقباضاً مرتسما على وجهي العجوزين أما غرازيلا فكانت عيناها مملوءتين بالدموع
تساءل الشاعر عن سبب انقباضهم وحيرتهم فقال الصياد: إن خال غرازيلا جاء طالباً يدها إلى ابنه، ولما كان في هذا العقد سعادة للفتاة فقد أجابه الشيخ بالارتياح، أما غرازيلا فلم تنطق بغير دموعها السحاحة
عند ذاك أحس لامرتين بتعلقه بغرازيلا، فأهمه كثيراً أن تخرج من ذلك المنزل، وأن لا يراها فيما بعد صادحة بين جنباته وزواياه، ثم دخل مخدعه يائساً وانطرح كالمحموم لشدة تأثره. . . وعبثاً حاول الرقاد.
وكانت تلك الليلة باردة جداً، والبرق شديد اللمعان في الفضاء، والريح تئن كثكلى ترثي وحيدها، والسيول تتساقط بروعة فتلقي الرعب في القلوب. . كان باب الحجرة يضطرب كلما هبت العاصفة. وقد خيل إلى الشاعر أنه يسمع أنيناً جارحاً؛ وأن فماً يردد أسمه بلوعة وأسى!
وكما تبرز الدمعة من العين الباكية ثم تتلألأ على الوجه، برز الفجر من أحشاء تلك الليلة المخيفة، فأنار سفوح الجزيرة وأغوارها بضوئه الضعيف. في تلك الساعة استيقظ لامرتين من رقاده. ولم يكد يسمع صراخ العجوزين والأخوين الصغيرين حتى سُمِّرَ في مكانه. . . ذلك لأن غرازيلا فرت إلى مكان مجهول. وهاج الحزن في صدر الشيخ جميع الآمه فدنا من لامرتين وبيده ورقة مبللة كانت ملقاة على فراش غرازيلا ورجا إلى الشاعر أن يقرأها له فإذا هي تحتوي على هذه الكلمات المتقطعة:
(لقد احتملت كثيراً حتى أصبحت لا أقوى على الاحتمال أقبلكم قبلة الوداع. . . سامحوني. . . أفضل أن أكون راهبة متجردة من أحلامها وأمانيها على أن أعيش عيشة الذل مع الرجل الذي لم تهبني السماء إياه. . . ردوا الخاتم إلى ابن خالي. . . سأصلي لألفونس ولأخوي الحبيبين. . .)