فيه، ثم طوته ثم أخفته، ثم ظهر عليها تردد شديد، كأنها تنبهت لأنها أتت أمرا عظيما وكأنها تراجع نفسها في استدراك ما فات، وإلغاء ما قدمت من الأمر، وكأنها تفكر في أن تتحدث إلى التلفون بغير ما تحدثت به إليه منذ حين.
ولكنها لم تبلغ من ذلك ما تريد لأن طرقا خفيفاً على الباب قد ردها عنه، واضطرها إلى أن تصلح من شأنها على عجل وترفع صوتها إذنة بالدخول. ولم يكد ينفرج الباب عن صاحبها الأديب حتى أقبلت عليه باسمة تحييه وتقول في جرأة متكلفة، واستحياء ظاهر، إن كنت أقبلت للوم والعتاب فعد أدراجك وارجع من حيث أتيت، وخذ قطار الظهر. فان في كتابك من اللوم والعتب والفلسفة والتشاؤم ما يغني عن إضاعة الوقت. قال فان ما أضيعه من الوقت في اللوم والعتب لن يكون شيئا بالقياس إلى هذه الأسابيع الطوال التي أضعتها أنت حين أبيت إلا أن تقيمي هنا، واذهب أنا إلى باريس. قالت فذلك شيء قد كان، وقد مضى بأثقاله وأوزاره وليس إلى استدراكه من سبيل فلست أرى خيرا في ذكره، ولا نفعا لإعادة الحديث فيه، قال أما أنا فأرى في ذلك الخير كل الخير والنفع كل النفع، لأنك لم تستفيدي بما مضى ولن تنتفعي بذلك الفراق الطويل الأليم، قالت وما يدريك؟ قال أرأيتك لو أنبأتك بأني سأقيم معك في هذه المدينة وسأختلف معك إلى دروس الجامعة حتى ينقضي الصيف ونعود معا إلى القاهرة، ماذا تصنعين؟ قالت أو قادر أنت على ذلك وقد انتهت إجازتك، ولم يبق لك بد من القفول. قال فان الإجازات تمد وان الحيل أوسع من أن تضيق وإن رسالة برقية قد ذهبت إلى القاهرة خليقة أن تمنحني من الوقت ما يتيح لي أن اختلف إلى حجرات العلم بعد أن اختلفت إلى معاهد اللهو والفراغ. قالت كالواجمة أو فعلت هذا؟ قال نعم قالت فعد إلى باريس أو أذهب أنا إليها. قال محزونا لابأس عليك فلن نلتقي في هذه المدينة الا بياض هذا اليوم، ولكن كيف تريدين أن تقضيه؟ وأين تريدين أن تقضيه؟ فما أظن أن غرفتك هذه الضيقة تسع أحاديثنا وخواطرنا التي لاحد لها والتي ينبغي أن تكون حرة كالطبيعة الحرة. ومطلقة كالهواء الطلق. وإني لأعرف من هذه الأرض أكثر مما تعرفين. قالت فإني لا أعرف منها إلا الجامعة والفندق والطريق بينهما. قال أما أنا فلا أعرف الجامعة وإنما أعرف الجبل والسهل وأعرف الربى والوديان، وأعرف الغابات الملتفة والرياضة النضرة، والغدران الجارية، ذات الصفحات النقية، والصوت الجميل، وأعرف