يفتأون يحرضون قواد الترك العسكريين، ويستعينون بما طبع عليه الألمان من اعتداد بالنفس ومغالاة في الاطمئنان إلى مقدرتهم، فيغرون حافظاً باشا بالاستمرار على مناوأة إبراهيم.
وصادف تحريض الضباط البروسيين هوى في نفس القائد التركي العام، فلم يشك قط في الظفر بأعدائه، لأن له جيشاً جراراً، وإدارة للمخابرات دقيقة النظام، وهيئة طيبة من الضباط نواتها مساعدوه الألمان.
وشجعه على الاعتداد بنفسه أن إبراهيم لم يقابل هجومه في ٢٣ إبريل بهجوم مثله. ولما سقطت عينتاب في يده زاد اطمئنانه، ولم يساوره قلق ما حتى جيء إليه بأحد الأسرى الذين وقعوا في يد الأتراك عند استيلائهم على قرية تل باشر. وهذا الأسير هو فرجاني شيخ عرب الهنادي. وكان رجلا سواه الله وعدله ووهبه من الكبرياء بقدر ما وهبه من قوة الجسم. وأخذ القائد العام يسأل أسيره، لعله يعرف منه ما يفيده في موقفه، لكن الرجل كان عنيداً لا يلين فأجابه بقوله:(عن أي شيء تسألني؟ دونك رأسي فليس ينجيه منك لساني، بل ربما أوقعني في الهلاك وكان منطقي سبباً في إراقة دمي). فأجابه حافظ بقوله:(لن أمس شعرة من لحيتك إذا صدقتني القول). فقال له الأسير:(أقسم بالقرآن أني سأبرح هذا المكان حياً سليما من الأذى، أخبرك بما تريد)
فلما أقسم ضحك فرجاني ملء شدقيه وقال!
(أتريد أن أخبرك بالحق وأطلعك على رأيي في معسكرك ومعسكر إبراهيم؟ أتريد أن تعرف ما سيقع في المستقبل؟ ألا هل يستطيع أحد أن يتنبأ بما في عالم الغيب؟ لكنك إذ أصررت على معرفة الحقيقة فأني مبلغك إياها: إن معسكر إبراهيم معسكر جنود، أما معسكركم فمعسكر حجاج).
فقال له القائد التركي غاضباً:(وماذا تقصد بهذا القول؟) فرد عليه بقوله: (رأيت في معسكر إبراهيم أكداساً من الأسلحة وإلى جوارها كتائب من الجند المشاة مدججين بالسلاح؛ ورأيت المدافع وإلى جانبها رجال المدفعية؛ ورأيت الاصطبلات وبقربها الفرسان؛ ورأيت كل إنسان في موضعه متأهباً لأداء واجبه؛ ولم أر شيئاً من ذلك في معسكركم، بل رأيت فيه يهوداً وتجاراً وأئمة؛ رأيت فيه رجالا يقرضون المال، ورجالا يبيعون، وآخرين يصلون،