الخرائب الموحشة الجرداء. وبلدة الخرابة قرية لا يدور اسمها على ألسنة موظفي الحكومة إلا قليلا فهي في شمالي الدقهلية وفي أرض بور تبلغ مساحتها بضعة آلاف من الأفدنة كلها مرتفعات وأخاديد، وقد تجمعت المياه في بعض المنحدرات ونبتت فيها النِّسيلة والبَشْنين. أما المرتفعات فقد تجمع من فوقها السبخ الأحمر وتوجتها أدغال من الطرفاء، وما أن تبعث على هذا الخراب الشامل بنظرة حتى يخيل إليك أن الله قد أنزل على هذه الأرض حسباناً من السماء فأصبحت صعيداً زلقاً
وعلى تبة من تباب هذه الأرض السبخة المالحة تقوم أكواخ قرية الخرابة، وقد نبت عليها شوك العاقول الأخضر، وتسلقتها حشائش العليق، وامتدت الرطوبة إلى نصف ارتفاعها. وعقدت أسطح الحجرات باللبن النبيء، وفتحت في أعلاها النواريز بارزة من أواسطها، فيخيل إليك إذا نظرت فيها أنهن عجائز القرية المهجورات مسخن بكارثة، وهن يتطلعن جميعاً إلى الشمال. فإذا جن الليل وأرسل القمر أشعته الفضية على هذا الكون الميت العجيب، شبه لك أن القرية قطيع من الفيلة السود، تتساوق متزاحمة، ولكن في صمت كأنه صمت القبور
ومن حول هذه القرية تقوم بضعة شجيرات من السنط بهت لونها وامتقعت أوراقها، وما يغشاها من طرفي النهار إلا غربان تنعق، وما يألفها في الليل إلا البوم تنوح من حول القرية طيلة ساعات السواد، نادبة حظ الأحياء والأموات، مرسلة بأناتها الطويلة الشجية الحزينة، ترثي الطبيعة المجرودة الغبراء
وعلى مسيرة بضع دقائق تقع جبانة القرية، وقد انتثرت فيها القبور كأنها كثبان الرمل سفتها الرياح، فتجاورت مزدحة في بقعة من الأرض، والأرض من حولها فسيحة براح، كأن طبيعة الإنسان الاجتماعية قد أقسمت لتزحمنَّه في القبور كما تزحمه في الحياة. وقد ترى اللحد ومن فوقه ذلك الكثيب علاه السبخ الكئيب، ومن حوله نبت الشوك وحوَّط القبر من جميع جهاته، كأن الطبيعة قد أرادت أن تحدد تخوم كل قبر لتكفي الموتى مؤونة العراك على امتلاك القبور، وهنالك تقع على جحر ذئب، وهنا على نبيشة ثعلب، وقد تنتبه على حركة طائر في وحشة ذلك الصمت الأبدي، فترى قطاة أزعجها مسيرك في مدينة الأموات، فتركت عشها من فوق قبر لتثقل به على صدر ميت كان بالأمس جباراً لا يرحم،