عنيداً لا يلين، مشبوب الشهوات واسع الأمل مستثار الجنان
وإنك لتعجب كيف أن قزم الخرابة يترك تلك الجبانة التي نشأ بمقربة منها، بل وفي حضنها الرهيب، ليهبط قريتنا، فلا نراه إلا ونذكر الخراب والغربان والبوم، ولا نحييه إلا وفي مخيلتنا مجمل هذه الصور التي صورتها، يحييها منظره ويدعوها إلى الوعي مجرد الذكرى، بأن في بلدتنا شخصاً من الخرابة. وتداعي الأفكار صفة نفسية، ولكن لابد من باعث يحركها ويدعوها. فكان هذا سبباً في أن يبعد الناس عن طريق هذا الإنسان لئلا تقوم في مخيلتهم ذكريات الخرابة وذلك القفر المجذب الحزين والأكواخ تسلقتها الحشائش والأشواك والأشجار الميتة القائمة من حولها، والغربان والبوم، والجبانة والقبور، فتغشي الطبيعة المرحة الباسمة سلسلة من تلك الذكريات الباكية. فلا ريب إذن في أن الأقدار قد تناصرت على هذا المسخ المشؤوم. ولكن لم يقس عليه من الأقدار شيء بقدر ما قست عليه الطبيعة التي شوهت من خلقه، و (الخرابة) التي نبذته وقذفت به إلى الوجود.
وقد يولد بعض الناس مثقلين بأوزار، أو محكوماً عليهم بأن يعيشوا في جفوة عما يحيط بهم من الأشياء؛ فمنهم من تجني عليه الطبيعة، ومنهم من تجني عليه الأسرة، ومنهم من يجني عليه الناس، ومنهم من تجني عليه البيئة، وكثير منهم يجني على نفسه، ومنهم من يخرج إلى الدنيا حاملاً وزر أبيه، أو وزر أمه، أو وزريهما معاً. وهو بعد تلك الأداة الضعيفة، وذلك المخلوق البائس. الذي لا اختيار له فيما اختارت له الأقدار، ولا حيلة في ما مضت به الكلمة المبرمة في ألواح الأبد والأزل.
في الإنسان طبيعة مشتركة، من تفاسير الوجود ما ينم عنها، ومن الذكريات وتداعي الأفكار ما يرسم على وجوه أبناء آدم تعابير واحدة. فكنت إذا ذكرت (محمداً) مساعد حمدان العربي وبلدته (الخرابة)، أرتسم على الوجوه ما يدل على ما قام في النفوس من الاستيحاش والتشاؤم والاستفزاز.
وفي صبيحة ذات يوم، أشبه بذلك اليوم الذي احتل فيه ذلك القزم سيف الغدير المحبوب، اجتمع نفر من أهل القرية وقد ذر قرن ذكاء بأبهته السماوية، ينظرون في الماء ليتبينوا شيئاً يعلو ويهبط أمام قنطرة تحجز مياه الري
تلك جثة (محمد الخرابة)، فقد تولاه الغدير برحمته الأبدية، أما أهل القرية فقد ظهرت على