يألم شاعرنا من شيء ألمه من هذا الرأي. سيكون في جزيرة وحده لا غزل ولا شراب، ولكن ليس هذا ما آلم نفسه وأدمى قلبه، إنما آلمه أن يعيش عيشة الضعفاء المساكين والرجال في غزوات الحرب يقتُلون ويُقتلون وأن يعيش عيشة النساء في خدورهن وهو الفارس الكمي، لا، لا، الموت أهون من هذا. تظاهر شاعرنا بأنه يحمل غرارتين ملئتا دقيقا وعمد إلى سيفه فجعل نصله في غرارة، وجفنه في غرارة، ودفنهما في الدقيق حتى إذا جاوز هو والحرسي المدينة ولقيا من سفرهما هذا نصبا جلسا للغداء، فقام شاعرنا يوهم أنه يخرج دقيقاً فأخرج سيفه ووثب على الحرسي فخرج يعدو على بعيره راجعا إلى المدينة وظل صاحبنا وحده. الآن لا أعود إلى المدينة ووفيها عمر، ولا أطوف في البلاد ألهو فلست بعد اليوم لاهيا، ولكن إلى حيث يحيا الرجال والفرسان حياة النجدة والشهامة إلى مواقع الغزوات، إلى أشدها هولا، وأصعبها مراساً، إلى (القادسية) حيث المواقع الفاصلة بين سيادة العرب وسيادة الفرس. ولكن عمر الساهر على كل شيء في مملكته، لم يخف عليه أمر شاعرنا، فعرف أين توجه، فما، وصل إلى القادسية حتى سبقه كتاب عمر يأمر سعد بن أبي وقاص بحبسه، ففعل ذلك وحبسه في قصره وقيده، فمشى يرسف في قيوده ويستعطف سعدا أن يطلقه فزجره، فذهب إلى سلمى زوج سعد وقال لها: هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء (فرس سعد) فلله على إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى تضعي رجلي في قيدي، فأبت فقام ثائرا حزينا، يرى القتال على الباب وهو يرسف في القيد، وانطلق لسانه بهذه الأبيات:
كفى حَزَنا أن تطعَنَ الخيل بالقَنَا ... وأُترَكَ مشدوداًعلى وِثاقيا
إذا قمت عَنَّاني الحديد وغلَّقت ... مغاليق من دوني تصِمُّ المناديا
وقد كنت ذا أهل كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدا لا أخا ليا
هلم سلاحي لا أبالك أنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فَرَجَت ألا أزور الحوانيا
سمعت سلمى هذا الشعر فرثت له ورأت الصدق في قوله فأطلقته، وأقتاد فرس سعد وخرج إلى مواطن القتال وإذا به أمام الناس يقف بين الصفين ويحمل على العدو حملات منكرة حتى عجب الناس من قتاله وأمره، ورأوا الفرس فرس سعد الطاعن لم يشهد الحرب معهم