للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بل أنا أذهب إلى أبعد من هذا، فأقول بأن أصحاب النفس الشديدة، والروح القوية، والشخصية الجبارة، يتهيأ لهم من حسن البيان، وجودة المقال والارتفاع بفنون الكلام، ما تتقطع دونه أقلام من تمكنوا من ناحية اللغة، وتفقهوا في أساليبها، وبصروا بنتاجها، من أهل البرودة والنعومة والدلال

ذلك لأن الفكرة في النفس القوية قوة، قوة عاصفة جامحة حرون، (تتكهرب) لها الأعصاب المرهفة، ويثور لحملها الوجدان، فما تجد النفس ترفيها وتنفيساً إلا في أن تقذف بها في أسلوب نير كومضة البرق، قوي كالحمم تنطلق من فوهة البركان، بليغ يرتفع في آفاق البلاغة والبيان إلى ما تتقطع دونه علائق الأحلام والأفهام

هذا هو الأستاذ البشري يقول: (إن السيد جمال الدين الأفغاني كان غريباً عن العربية، وإن قاسم أمين كان شبه غريب عنها، وإن حسين رشدي باشا كان قل أن تطرد على لسانه ثلاث كلمات عربية متواليات، ومع هذا كانوا يرتفعون بالعبارة أحياناً إلى ما يتخاذل من دونه جهد أعيان البين)

ولا عجب من هذا، ألا ترى إلى مقالنا، كيف يبين ويرتفع في سماء الوجدان ساعة ثورتنا وغضبتنا، إلى ما لا قدرة لنا عليه في ساعة الرضى والاطمئنان؟

كذلك هي النفس القوية، أبداً في ثورة عاصفة، وغضبة جامحة، وكذلك هي أبداً في تحفز للوثبة، وتأهب للطفرة والهجمة فان لم تجد أمامها ما تحطم، رجعت إلى قرارتها تثير حرباً عواناً بين خيرها وشرها، وحقها وباطلها، وتقاها وفجورها، لأن الهدوء والركون صور من صور الموت، والنفس القوية لا تعرف فترات الموت والبرودة والجمود، ما دامت تبصر النور، وتتنفس الهواء.

الحياة سفر الأديب الموهوب: وهي صراع دائم بين الغي والرشد، والحق والباطل، والجمال والقبح، والهدى والضلال، والحب والبغض؛ فالأديب الحق هو الذي ينزل إلى ميدان هذه المعركة المحتدمة، يقاتل ويناضل ويصاول في سبيل الرشد والحق والهدى والحب والجمال، إلى أن يحطم أصنام الشر والبطل، ويهدم حصون الضلال والقبح، أو يتحطم هو على أقدام الحق الذي ناضل في سبيله، وتحت ظل الراية. التي نافح عنها، وهكذا يلفظ النفس، راضي النفس، مطمئن الضمير، هادئ الخاطر، يبتسم لأحلام القبر كما

<<  <  ج:
ص:  >  >>