للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وبرهان الفقر في المواهب، أو الضعف في النفس. وقد ينتهي هؤلاء إلى شيء ما في دراستهم هذه، فتراهم يصيحون نائحين في مآتم الموتى، أم مهرجين في حفلات الأحياء، أو خارقين للبخور أمام أهل الجاه

ولا عجب من هذا، فهم لا يصلحون للحياة، ومن لا يصلح للحياة لا يصلح لحمل القلم، والوقوف في صفوف الأدباء

ثم هذه هي المقاهي، ودور البطالة واللهو والعبث، أصبحت ملاجئهم يلجئون إليها كما يلجأ العجزة إلى دورهم وملاجئهم، ويفرون إليها من زحمة الحياة، وهم يقرقرون ويموءون وينقنقون

أعرف أديباً كهلاً - أو على الأصح متأدباً -: أفتدري يا صاحبي ما هي رسالة أدبه؟ رسالته - بالضبط - رسالة (عميان الجنائز) والنائحات اللاتي يستأجرن في المآتم للندب واللطم والشق والعويل، أو رسالة (البرابرة) الذين يستأجرون في مصر لتأديب المآدب، وتنظيم الحفلات

يسمع أن صديقه فلاناً قد مرض ولزم الفراش؛ وقد يكون ما به لفحة حر، أو زكام طفيف، فهو - منذ أيام المرض الأولى - يعد لصديقه العزيز مرثيته العصماء ليبكي فيه - إذا ما مات وأظنه يريده أن يموت ليرثه - ليبكي فيه النجم الذي أفل، والبحر الذي نضب، والرحمة التي رفعت، والرجولة التي فقدت. ويسمع أن (فلانا) وهو من أهل الجاه الطويل العريض - سيؤم المدينة بعد أيام؛ فإذا قدم كان صاحبنا الأديب الخالد أول المستقبلين والمرحبين، وكان أول الخاطبين بين يديه والمادحين؛ وقد يكون هذا العين ممن لا يعرفهم صاحبنا إلا (بالسلام) وقد يكون من هذه الطبول المنفوخة الجوفاء التي نقع عليها في طريقنا صباح مساء؛ وقد يكون ممن كان يشهر بهم أديبنا آناء الليل وأطراف النهار؛ وقد يكون من هؤلاء المجرمين الذين يروحون ويجيئون أمامنا بأثواب القديسين والأقطاب، فنسجد لهم ونحملهم على الأعناق؛ قد يكون هذا العين من كل هؤلاء، ولكن أديبنا لا يتحرج إذ يخلع عليه الألقاب، وإذ يغرقه بالتحيات، ويجعله في البلاغة سحبان وإن كان أعيا من بإقل، وفي الكرم حاتماً وإن كان أبخل من أشعب، وفي الشجاعة عنترة وإن كان أجبن من أبي دلامة

<<  <  ج:
ص:  >  >>