(ها إن الصديقين يرسمان الخطوة الأولى في الطريق المؤدي إلى المجد ولا يبعد أن يحققا مرة أخرى المثل الأعلى الذي سبق أن حققه الباشوان اللذان كان الصديقان يترسمان شخصيتيهما)
فأحنى الأستاذ رشدي رأسه مؤمناً فعاد الآخر إلى سؤاله بعد تردد:
(وأنت. . .؟)
(أما أنا فقد سعيت كما سعيت وأغلقت الأبواب في وجهي كما أغلقت في وجهك ولكني لم أسلم للخيبة كما سلمت لها، ففي ميدان المحاماة متسع لجميع ذوي العزائم والهمم، والمحاماة ميدان تبرز فيه ملكات الرجال ومزاياهم، فلا ينبغ فيها إلا كل عبقري جبار؛ وما أجدرها أن تبلغ بي ما تتمنى نفسي من المثل الأعلى. .)
هذا جميل، ولكنه لا يستطيع أن يحتذي حذو رشدي ولا أن يأمِل آماله، فآل رشدي على شيء من الثراء يمكنهم من أن يؤيدوا الشاب حتى يقف على قدميه، أما هو فلا يمكن أن يطالب أباه بشيء من هذا، لأنه يعلم علم اليقين أنه شيخ فقير. وأنه يربي خمسة من البنات والبنين، فما عسى أن يصنع. . .؟
لقد أظلمت الدنيا في عينيه وذوت أزاهر آماله اليانعة وبات يذكر أحلامه عن المجد والوزارة بالاستهزاء المرير والسخرية الأليمة، وداخله شعور قوي بتفاهته وتفاهة الدنيا وأحلامها ومسراتها، فعاش زمناً في ظلمة أشد حلكة من ظلام القبور.
وبعد حين زاره فجأة الأستاذ رشدي، وكان في هذه المرة منشرح الصدر جذلاً مسروراً فبادره بقوله: -
(قل معي يا بشري. . . لقد اهتديت إلى كنز ثمين. . . فأصبت منه حظاً وأرجو أن تنال منه مثل حظي. .) فنظر إليه نظرة المريض المشرف على الهلاك إلى طبيبه. فاستطرد رشدي قائلا:
(لن تغرب شمس الغد علي حتى أكون من الموظفين. . من أعضاء النيابة العمومية. .)
(مبارك. .)
(أرجو أن أهنئك بدوري عما قريب. . والآن أصغ إلي فإني أعلم أنك تتلهف إلى معرفة حقيقة المسألة. هو مكتب للمعاملات المالية في الطابق الخامس من عمارة رقم ٨٥ شارع