للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فالحواس ليست كاملة لأن الكامل لا يقبل الزيادة، وما دامت ناقصة فسيظل في الوجود أشياء لا ندركها أو ندركها ولا ندري أننا ندركها.

ولنأخذ الكائنات التي ندركها، هل ندركها كاملة؟ أنا أرى الألوان ولكن هل أراها كلها؟ هل أرى ما وراء الجدار؟ هل أبصر عصفوراً على شجرة من مسيرة يوم؟ هل أمّيز رجلاً في الصحراء على بعد عشرة أميال؟ وأنا أسمع الأصوات، ولكن هل أسمع صوت نملة تسير على التراب؟

أفيحق لي أن أنكر أن للنملة صوتاً لأني لا أسمع هذا الصوت؟ أو أن أجحد ما وراء الجدار لأني لا أبصر ما وراءه؟ فأنا إذن أدرك من الكائنات أنواعاً معدودة، وأدرك من هذه الأنواع مقادير محدودة.

وهذه المقادير التي أدركها، هل أدركها على حقيقتها؟ ألا تخطئ حواسي أو تضل؟ إني أضع إصبعي الوسطى على السبابة ثم اجري القلم على باطن الإصبعين فأحس بقلمين. . . وأضع العود المستقيم في الماء فأراه منكسراً. . . وأنظر في الصحراء فأرى الرمال مياهاً غزيرة. على حين انه ليس هناك إلا قلم واحد، وإن العود المستقيم يبقى في الماء مستقيماً، وإن رمال الصحراء لا مال فيها، ولكن حواسي أخطأت وضلت. وأنظر أي كتاب من كتب علم النفس (السيكولوجي) تر من ذلك شيئاً كثيراً، فإذا كانت هذه هي قيمة الحواس، فهل يحق لنا أن نجعلها وحدها طريق المعرفة، وأن ننكر كل أمر لا تقع عليه حواسنا؟ ألا ننكر نفوسنا قبل كل شيء لأن نفوسنا وأرواحنا لا تدركها حواسنا ولا تعرف ماهيتها؟

الخيال

وإذا ثبت أن الحواس ناقصة محدودة، ثبت أن الخيال محدود، لأن الإنسان لا يستطيع أن يتخيل شيئاً جديداً لم يدخل في دائرة الحس، ولأنه لا عمل للخيال إلا تأليف صور جديدة من الأجزاء القديمة. فالذي نحت تمثال فينوس لم يأت به من العدم، وإنما جمع في ذهنه أجمل أنف رآه، وأجمل فم، وأجمل عين، ثم ألّف منها صورة جديدة لم يدركها الحس بمجموعها ولكنه أدرك مفرداتها على كل حال. والذي صور الحصان المجنح، أخذ جسم الحصان وجناح الطائر. من أجل ذلك سمى كثير من علماء النفس هذا الخيال جامعاً، وكرهوا أن يطلق عليه لفظ (الخيال المبدع). فكيف إذن تستطيع أن تتصور الجنة أو

<<  <  ج:
ص:  >  >>