للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الملائكة أو الحياة الأخرى وأنت لم تدرك بحواسك أي جزء من أجزائها؟ إنه ليس في النفس شيء لم يدخل لها من العالم الخارجي، وأنت لم تعش في الجنة، فإذا قلت لك مثلاً. . . إن في الجنة أنغاماً موسيقية عطرة، أو أن فيها عطوراً لها رائحة خضراء، فهل تستطيع أن تتخيل هذه الأنغام العطرة، أو هذه الرائحة الخضراء؟ هل تقدر أن تتخيل بعداً رابعاً غير الأبعاد الثلاثة المعروفة (الطول والعرض والارتفاع)؟ هل تتصور مثلثاً ليس له زوايا، ودائرة ليس لها محيط؟ كذلك لا تقدر أن تتصور أن لله يداً ليس لها طول ولا عرض ولا جسم ولا صلابة ولا صفة من الصفات البشرية ولا تشبه الأيدي ولا تشاركها إلا في الاسم. ألا تجد نفسك مضطراً إلى التسليم بالعجز والإقرار بأن المستحيل على الخيال البشري الوصول إلى معرفة ذات الله وصفاته الإلهية؟

العقل

تقدم معنا أن الحواس خدعت، فأحست القلم قلمين، ورأت العود المستقيم منكسراً، والسراب ماء، ولكن العقل لم يخدع، وكان يعلم انه قلم واحد، وأن العود مستقيم، والسراب ليس بماء، فالعقل إذن أوسع قدرة، وأصح حكماً من الحواس. ولكن أليس لقدرته حدود؟ هل يقدر العقل على أن يحكم على كل شيء؟

الجواب: لا. لأن العقل لا يستطيع أن يحكم على شيء، أو يدركه إلا إذا حصره بين شيئين هما الزمان والمكان. لذلك يسأل العقل دائماً: متى؟ وأين؟ فلو قلت لك: إن حرباً وقعت ولكنها لم تقع اليوم ولا أمس ولا قبل سنة ولا أقل ولا أكثر لم تصدق ذلك ولم تدركه. ولو قلت لك: إني رأيت مدينة ليست في شمال ولا جنوب ولا سهل ولا جبل ولا هواء ولا هي في مكان، رددت ذلك وكذبته، لأن الزمان والمكان ركنا العقل لا يقوم إلا عليهما. وبديهي أن ما اتصل بذات الله لا يخضع للزمان والمكان، ولا يطلق عليه متى وأين. . . ولذلك يعجز العقل عن إدراك أي شيء يتصل بالله عز وجل وصفاته، ولا يستطيع أن يعرف عنهما شيئاً بلا معونة من الخارج.

ثم إن العقل محدود، فلو قلت لك: إن خطاً أبيض يمتد في الظلام ليس له آخر، وأردت أن تفكر في هذا الخط، وتجمع في إدراكه عقلك، لعجزت عن إدراكه وشعرت بأن عقلك ينازعك منازعة شديدة إلى وضع آخر له، ويميل إلى قطعه وإدراك نهايته. ولو قلت لك:

<<  <  ج:
ص:  >  >>