حقها في تركة أبيها، لا يريدون أن تستمتع منه بشيء. . . قلت: فهذا هو السبب؟ قال: نعم، قلت: فما ذنبها هي؟ قال: أيهون عندك أن تكون زوجي ليس لها عند إخوتها حق ولا كرامة؟ قلت: ويهون عندك أن تأخذها بما اقترف أخوها؟. . . مصطفى، إنك جبار، أو لا فاذكر أن الطلاق جريمة لم يقترفها قبلك أحد من أسرة الرافعي؛ أو لا هذا ولا ذاك، فاذكر أن أهل (طرابلس الشام) لا يذكرون الطلاق إلا كما يذكرون نادرة معيبة وقعت مرة ولن تتكرر من بعد. . . فكن بعض أهلك يا صاحبي. . .!
قال: وأطرق الرافعي هنيهة ثم قال: أحسبتني أفعلها. . .!؟ ولم يدخل الشيطان من بعد بينه وبين أهله، إذ كان كل منهما يعرف لصاحبه حقه وواجبه. . . ومضت اثنتان وثلاثون سنة بعد هذه الحادثة، كما يمضي شهر العسل، أو شهر الغزل، ليس فيه إلا العطف والمحبة والاحترام.
كان الرافعي يعيش في بيته عيشة مثالية عالية؛ فهو زوج كما يجب أن يكون الزوج، وأب كما ينبغي أن يكون الأب؛ وما كان منكوراً لأحد من أهله أن الرافعي ليس موظفاً كسائر الموظفين عمله في الخارج وحسب؛ بل كانوا جميعاً يعلمون ما عليهم لهذا الرجل الكبير، ويشعرون بما عليه من تبعات تفرضها عليه مكانته الأدبية، فيهيئون له أسباب الهدوء والراحة والاطمئنان. كان في بيته كالملك من الحكومة الدستورية: يملك ولا يحكم، ويعيش في جو من الاحترام والرعاية والطاعة، فرق الأحزاب وفوق المنازعات؛ فمن ذلك لم تكن (سياسة) البيت تشغله أي شغل أو تشغب في هدوئه وتعكر صفوه؛ فكان خالصاً لنفسه، منقطعاً لفنه وعمله الأدبي، فدار كتبه له هو وحده، وطعامه مهيأ في موعده وعلى نظامه، وفراشه ممهد في موضعه لساعته، ونظامه الذي يحقق له الهدوء والراحة ونشاط الفكر مرعي مضبوط
على أنه كان إلى ذلك يعرف واجبه لزوجه وأولاده، فما هو إلا أن يفرغ من عمله حتى تراه بين أهله مثلاً عالياً من الحب والوفاء؛ وأنا ما عرفت أبا لأولاده كما عرفت الرافعي؛ إذ يتصاغر لهم ويناغيهم ويدللهم ويبادلهم حباً بحب، ثم لا يمنعه هذا الحب الغالي أن يكون لهم أباً فيما يكون على الآباء من واجب التهذيب والرعاية والإرشاد، ناصحاً برفق حين يتحسن الرفق، مؤدباً بعنف حين لا يجدي إلا الشدة والعنفوان.