الكون، حياتها انتقال من الغموض إلى الوضوح في الإدراك. من ذلك نرى أنه وافق ديكارت على وجود الآراء الفطرية، بل لم يرضه أن يقف عند الحد الذي وقف عنده ديكارت. من أن بعض الآراء فقط تولد مع الطفل وبعضها الآخر تحصله الحواس فادعى هو أنها جميعا تولد فطرية ولا يستحدث منها في الحياة شيء كما وافق لوك على أن التجارب التي تنفذ إلى العقل عن طريق الحواس لها كل الأثر في تكوين المعرفة، والفرق بينهما إن ليبنتز لا يرى هذه المعرفة قد استحدثت بل انتقلت من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل، أو قل انتقلت من حالة الخمود إلى اليقظة والنشاط، وهكذا استطاع ليبنتز أن يقرب وجهتي النظر إلى حد الاندماج.
الله والعالم:
كان ليبنتز مؤمنا شديد الإيمان، يصدر عن عقيدة سليمة ودين قويم، فهو يرى لزاما عليه أن يرد بالحجة ما تنطلق به بعض الألسنة من اتهام بالشر والنقص، وأن يثبت للناس أن هذه الدنيا التي نعيش فيها هي أكمل ما يستطاع خلقه من الدنى. أليس الله جل شأنه علة وجود الأشياء جميعا؟ إذن فلابد أن يكون قويا إلى أبعد حدود القوة، كاملا إلى أقصى مراتب الكمال، حكيما إلى أعمق أغوار الحكمة، خيرا إلى أوسع آماد الخير. صور لنفسك هذه الحكمة المطلقة قد تآزرت مع ذلك الخير الأسمى في خلق العالم، ثم حدثني كيف يكون؟ أليس من الطبيعي المحقق أن يجيء على أحسن ما تجيء العوالم؟ هذا حق لا ريب فيه. لأن الله تعالى يصدر عن منطق مستقيم يتفق مع ما له من كمال، ولا يسع ذلك المنطق الكامل إلا أن ينتج عالما أقرب ما يكون إلى الكمال (لأنه إذا أخرج عالما دون ما يستطاع إخراجه، كان في عمله ما يمكن تهذيبه وإصلاحه). هذا الإيمان العميق لم يصادف من فولتير إلا سخرية مرة! فيرد على ليبنتز بقوله إن تجربته في الحياة علمته أن هذا العالم، على نقيض ما وصف، أسوأ ما يمكن خلقه من العوالم. ولو كان فيه ذرة من كمال لأمحى من وجهه هذا البؤس الذي يزهق ألوف الألوف من النفوس الكسيرة، وقد هاج هذا القول من فولتير شابا مؤمنا إلى درجة الحماسة فتصدى له وهاجمه في الصحف هجوما عنيفا، فلم يكن من الساخر العظيم إلا أن رد عليه في رفق هادئ بقوله: (يسرني أن أعلم أنك أصدرت رسالة تهاجمني فيها، فقد أوليتني بذلك شرفا عظيما، ولكن ألا تستطيع يا سيدي