لكي يأتي الشعراء والمبدعون من بعده ويجدوا من يفهمونهم ويمشون معهم ويسمعون إلى ألحانهم. ولعل هذه النظرية تلائم نظرية الشاعر (ستيفان مالارمي) في أن الشاعر يجب ألا يتلوه إلا شاعر، أو قارئ يستطيع أن يسمو معه في لحظة ما ويتحد معه اتحاداً شعرياً. وهذا أهم ما في رسالة النقد لأن عبقريات كثيرة - بغير النقد - تنطفئ لأنها لا ترى طريق اتصالها بالجماعات
ويرى (ماسبي) أن النقد يعمل كمعلم. . . (إننا نفتقر إلى معلمين ولا نطلب إلى النقد أن يعجبنا. . . لا شيء أصعب اليوم ولا أعسر من وضع نظام وترتيب في الآثار الأدبية والفنية. وإزاء هذه الميول والأهواء المتباينة يجب أن يكون الواجب الأول للأدب أن يرينا أين نحن؟ ومن نحن؟ وأن يفصل بين العبقريات. وبعبارة أجلى أن يكون حارساً أميناً)
ونحن مهما تجردنا من هذا النقد المعلم فمن المحال أن نتجرد منه تجرداً تاماً، لأن من طبيعة الحال أن يقبل الناس على الناقد ويروا فيه (المطلع الحاكم) الذي يصحح بجرأته بعض الأخطاء الكبيرة. ويمكن القول بأن تقدير الآثار على رغم بعض الخطأ في هذا التقدير قد يكون ضرورياً في مجتمعنا الحاضر. . . .
وبعض النقاد يعملون على أن يتجردوا ويتركوا الحكم للقارئ نفسه. وذلك بأن يفتحوا له طريقاً يسلكها ويكتشفها لنفسه. . . ولكن هؤلاء مهما تجردوا - يحملون شيئاً من أنفسهم دخل في بضاعتهم من حيث لا يشعرون.
أما مدارس النقد التي قامت وتقوضت ثم قام غيرها ويقوم غيرها فهي أكثر من أن تحصى، ولكل فوائدها واكتشافاتها. فقد نشأ النقد نشأة ضيقة منذ نشأ. كان يرى أن الشيء الجميل له قواعد معينة معروفة ولا يكون بدونها جميلاً. وهذا نقد مجرد ينصر الفكرة المجردة، ولكنه يهدم بنقد آخر لا يؤمن بالتجرد، بل يرى أن الجميل لا يكون مجرداً، وإنما هو كغيره له علاقات تربطه بغيره. وقد شاعت هذه النظرية كثيراً حتى نشأ عنها (النقد بالمقارنة والموازنة بين الأشكال الجميلة والآثار الأدبية في الشعوب المختلفة ثقافتها) وهذا النقد قد وسع آفاق النقد إلى ما لا حد له. ويعجبني في هذا المعرض سلسلة المقالات التي تنشرها مجلة الرسالة الغراء (بين الأدبين العربي والإنجليزي) للأستاذ فخري أبو السعود. ولعلها تكون فاتحة سلاسل للمقارنة بين الأدب العربي والآداب الشرقية الأخرى التي أتصل بها