مدرستهم بخير ما يغذى. وفي الأقطار العربية فئات لا ينقصها من الثقافة شيء. ولا يضير العربية تعدد هذه المدارس لأنها باعث من بواعث النشاط والتحفز.
نحن في عهد قد اتسعت فيه مناحي ثقافتنا وأصبح لا يشبعنا ما كان يشبع من قبلنا، وأصبحنا نطلب من الأدب أن يكون شيئاً غير التنميق والزخرفة والشعوذة. والأدباء والشعراء الذين كنا نطرب لهم بالأمس لم يعودوا يملئون نفوسنا، وإنا إذا طربنا اليوم ببعض آثارهم فلأن هذه الآثار تخاطب فينا جزءاً عتيقاً من أنفسنا لا يزال يمد رأسه من حين إلى حين، كالمقطوعة الشعرية مثلاً نسمعها في مناسبة ما من فم قائلها فتطربنا، ولكن إذا عدنا إلى (جوها) لم نجد شيئاً، وإذا تلوناها تلوناً فيها شيئاً كثيراً إلا الشعر. وشعراؤنا على اختلافهم ينظمون كثيراً ولا نعرف لشاعر منهم لوناً خاصاً يتميز به إذا ميزت الألوان؛ لأن جلهم لا يزال يرعى عهد القدماء (القائل) أحفظ أشعار الأوائل وانهج على منوالهم تصر شاعراً. . . ولم يعلم هؤلاء أن العصر قد تبدل وتبدلت بتبدله مطالبه، وأن الشعر أصبح ذا رسالة تفتقر إلى ثقافة عميقة وذوق مهذب فني. فهل هب من شعرائنا من يدرس النظريات الفنية؟ وهل في تحليل النظريات والاستفادة منها ما يضر مواهبهم؟ وهل يعارض أصحاب القديم في إدخالها وهي لا تهدد البيان ولا تحرف اللسان؟
كان الشاعر - مثلاً - يكفيه أن يجمع بين أية فكرة وأية لفظة لا يبالي الملائمة ولا يبالي أصل هذه الفكرة! أما الآن فهو مضطر إلى أن يفرق بين الخطرة الفكرية والخطرة الشعرية، وأن يعي علاقات الألفاظ بالمعاني وينسق ألحانها دون أن يخونه شيء. وهذا يدعوهم إلى أن يمارسوا النظريات الجديدة في الفن وعلم النفس. وهذه النظريات هي وقف على العقل الإنساني الشامل لا تختص بأدب ولا تنتسب إلى قبيل، وإن من واجب المدارس الأدبية إزاء هذه التطورات ألا تقف عند نظريات معينة في النقد لتجعل من طلابها نقاداً ومؤرخين، وإنما هنالك النظريات الفنية التي تزيد في إطلاع الطالب على أعماق النفس البشرية وتجعله أكثر ارتباطا بالحياة وتفهماً لها. وبهذا تعمل على تطور الأدب - لا تاريخ الأدب - تطوراً مخصباً يعود على كل حقول الأدب بالإنتاج والابتكار. قلت: إن النقد تقدم في أدبنا، وليس معنى ذلك أنه بلغ الذروة التي يريد بلوغها. فللنقد عند الناقدين مذاهب كما للأدباء؛ وكل مذهب يفهم النقد كما يريد، بينما يقف نقدنا عند مرحلتين:(١) نقد الآثار