القديمة وتنظيمها وإنشاء دراسات مخصبة عليها. وقد خطا النقد العربي في هذه المرحلة خطوة واسعة موفقة (٢) نقد الآثار الحديثة وأكثره عمل تهديمي صرف، أو إضرام بخور المجاملة للأصنام الأدبية، دون أن يجرب أن يكون نقداً عميقاً يلتفت إلى البناء. وإذا كانت فائدة النقد الأول إحياء مآثر الماضين ففائدة النقد الثاني أجل وأعلى لأنه يحيى الأحياء ويفتح لهم طريق الإبداع. ومن هذا ترى سر تهافت طلابنا على الدراسات القديمة وتجمد روح الإنتاج والإبداع فيهم.
تلوت قراراً جديداً أصدرته الجمهورية الألمانية هذا العام تمنع فيه الأدباء الأحداث أن يجروا أقلامهم في ميدان النقد، لأن النقد عمل ثقافي يحتاج إلى مراس وإطلاع واختبار. وهي تزعم أنها تريد من وراء هذا أن تحمى آثار العباقرة من التهجم، ولكني أريد أن يبقي النقد وأن يتناوله الشباب. وإذا أريد حماية الأدب فلا نستطيع أن نحميه بمثل هذا القرار لأن النقد غريزة في النفس، بل ربما كان النقد وحده عبقرية. وقديماً قالوا إن النقد يرافق الأثر الأدبي ولا يخلقه. ولكني أرى أن النقد في كثير من المواطن لم يكن مرافقاً وإنما كان خلقاً. أجل! إن العبقرية تكاد تكون - كما يجمع علماء النفس - شذوذاً في الناس كالمعجزة، ولكن هذه المعجزة مرتبطة - من نواح كثيرة - بما حولها، ولولا ما حولها لفسدت. وهكذا ساعد النقد عبقريات كثيرة على الظهور لأنه عبر عنها وفسر ما يكنفها من إبهام. ولذلك لا حاجة إلى خنق النقد حماية الأثر الأدبي، لأن الأثر الأدبي والنقد لا يحتاجان إلى وسيط بينهما للتفاهم، ولا إلى قانون يحمي أحدهما من الآخر. فليوجد الأثر الأدبي من شاء، ولينقده من شاء. . . .
تقولون لي: وكأنا بك لم تكفك مقاييسنا الجديدة في النقد فما هي مقاييسك؟
إنني لا أميل إلى مقاييس تقريبية محددة مقيدة. ومن ذا يستطيع أن ينشئ للحياة وأذواقها المتباينة مقاييس. .؟ وأية عين ترى مثل ما ترى الأخرى؟ ولقد نتغذى بثقافة واحدة في بيئة واحدة، وتتجه وجوهنا شطر آفاق واحدة، ولكنا لا نتفق في النهاية على تفهم ما نراه. ولكنا رأينا الحياة جميعاً، وفهمنا منها كل بحسب مزاجه، ولكن هذا لا يمنع أن يكون للنقد مناح نوجهه إليها.
فالواجب الأول - عندي - للنقد أن يكون في القارئ شخصية مستقلة في النقد، تترك