حتى طارت قنبلة من فوق رأسه فوقعت على جدار بعض البيوت فَمُلئت أذناه جلبة وضوضاء من تهدم الجدران يعقبه أصوات الفزع والصراخ والبكاء؛ ثم عاد الجو بعد هنيهة إلى ما كان عليه من سكون وهدوء.
ولما اجتاز عدة شوارع رأى بيتاً تشتعل فيه النيران اشتعالاً هائلاً، ورأى جماعة من الرجال والنساء، منهم من يحمل على ظهره أمه الفانية، ومنهم من يقود أباه الهرم، ومنهم من تحمل على ذراعها رضيعها، وهم يهيمون على وجوهم في الشوارع باكين صارخين لا يدرون إلى أين يلتجئون. وبيناهم كذلك إذا بقنبلة تسقط بينهم فانفجرت فمليء الجو صراخاً وأنيناً: أنين الذين يشرفون على الموت الزؤام، فأغمض عينه ومضى في سبيله قدماً بخطوات واسعة. ثم ارتبكت رجلاه فجأة ارتباكاً كاد يعثر منه، فنظر إلى الأرض فإذا بجثة سيدة ملقاة على الثرى تبين في نور القمر أن قنبلة قد ذهبت بإحدى رجليها وتركتها غارقة في دمائها البريئة، وطفل لم يمض على ولادته حول كامل مكب على صدرها يرضعها
ولما بلغ جانب السور رأى نور القمر يسطع من بين الغيوم السوداء، وشاهد كثيراً من جثث الجند مبعثرة على مسند السور هنا وهنالك يئن فيها من لم تزهق نفسه بعد، فالتقط من الأرض بندقية وسلب إحدى الجثث كنانة الرصاص ثم أخذ يصعد على السور، وما كد ينتهي إلى شرفاته حتى تدحرجت جثة من فوق السور عثر فيها ثم نهض من عثرته على الفور، ولما انتهى إلى الشرفات التفت يمنة ويسرة فوجد مسافة نيف وخمسين متراُ خالية من حراسة الجند، ثم أخرج رأسه من بين شرفتين ليعرف حالة العدو، فطار نحوه الرصاص ومر بجانب أذنه، فأنسحب سريعاً وانتقل إلى ما بين الشرفتين الخامسة والسادسة من يساره، وأخرج رأسه مرة أخرى فرأى بأشعة القمر بضعة عشر جندياً يحاولون تسلق السور من هذا المكان الخالي من الحراسة، بعضهم على أكتاف بعض، فصوب بندقيته إلى أحدهم في الطبقة السفلى وأطلق عليه رصاصة فأصابته بالمصادفة فانهارت الطبقة السفلى وتدحرج الذين فوقها إلى الخندق كلهم أجمعون.
ولكن بعد هنيهة اجتمعوا عند السور مرة أخرى فأطلق عليهم رصاصتين فأصاب أحدهما وأخطأ الآخر، وبينا هو في اضطراب وغضب إذا برجل يناديه من وراء ظهره:(من أنت يا رجل؟!)