تحمل نيتشه مضض الحياة. أما الإنسان الراقي الذي تكلم عنه في كتابه (زرادشت) يختلف عن الإنسان الكامل الذي جاء بوصف له في الجزء الرابع. ولا داعي للاسترسال فإن (الرسالة) تترجمه في التحدث عما يتضمنه كتاب (زرادشت)، ونكتفي بما أشرنا إليه لنتحدث عن أسلوب نيتشه في هذا الكتاب. فقد نهج فيه نهجاً فريداً. وكان نيتشه قد كتب إلى (روده) إمام اللغة في ذاك العصر يسأله إن كان هناك في اللغة الألمانية أسلوباً يضارع أسلوبه في زرادشت من حيث القوة، وإن كان يعتقد بأن اللغة الألمانية بلغت أقصى شأوها على يدي جيته ولوتر ويقول نيتشه
(إن أسلوبي هو الرقص، هو لعب متجانس في كل أشكاله، كذلك هو القفز والاحتقار لكل تكرار) ويعد كتاب (زرادشت) أكثر كتبه انتشاراً وأبعدهم أثراً وغوراً، وفيه تتجلى شخصيته وشاعريته. وهو يقول عنه:(إن هذا الكتاب أنشودة الليل - وفي الليل تجيش كل فوراة بصوت أعلى. كذلك روحي هي الأخرى فوارة.) وقال نيتشه على لسان زرادشت متحدثاً إلى شخصه: (إنني جوال أتسلق الجبال) كذلك قال: (إنني لا أحب المنبسط من الأرض، وقد تبينت أنني لا أستطيع الهجوع إلا يسيرا. ولا أنتظر من القدر إلا أن أبقى هكذا جوالا أتسلق الجبال) وهذا الشعر الرمزي هو طابع كتاب (زرادشت) العظيم.
ولنتيشه في هذا الكتاب شاعرية فذة، فهو في بعض الأحايين يخجل من أن يكون شاعراً، لأنه قد يكذب مع علمه بكذبه، ومع رغبته في الكذب. ولهذا فهو يأبى أن يكون من طبقة الشعراء الذين لا ينظرون إلى أعماق الأشياء وأعماق الحياة. أما أنه كان ميالاً إلى التلاعب بالكلام والصور في شعره فذلك لا ينكره أحد. وكان نيتشه رومانتيكي النزعة الأدبية، ولكنه كان يأبى أن يعرف عنه ذلك، هذا إلى أنه كان عدواً لدوداً للأدب الرومانتيكي، ومع ذلك فقد كان كلاسيكياً في تذوقه للأدب. وكان من أنصار الإيضاح والتبسيط، يكره التفاصيل كما يكره التعقيد والتشكك. وكان يتذوق أدب (يونج ستلنج) وجيته وشتفتر وجيتفريد كلر وهم من غير نزعته. وكذا ظهرت هويته فيما لا يملكه.
وكان نيتشه يعمل في نفس الوقت الذي أخرج فيه كتاب (زرادشت) في تأليف كتاب آخر أظهره سنة ١٨٨٦ تحت عنوان (ما وراء الخير والشر) وهو مقدمة شبه مسرحية لفلسفة المستقبل، وقال عنها نيتشه بأنها طريق ممهد لأرض زرادشت الموحشة الخطرة. وهو