إننا نعلم جيداً كغيرنا أن المغرب كان إذ ذاك طافحاً بكتاب بارزين هم أولى بإسناد هذه المهمة إليهم، وأحق بإلقائها عليهم، لو كانت تخطر ببال، فكيف عدل أبن عائشة عنهم إلى هذا الكاتب دون سواه، وهو كاتب أجنبي لتاجر أجنبي، لا علاقة له بمطلق شؤون الدولة، ولا بالبلاط السلطاني وكيف اطمأن إليه في هذه القضية المهمة، التي يتوقف علاجها على كاتب ماهر من كتاب أسرار الدولة الممارسين لها العارفين بأساليبها ممن يتلاعب بأطراف الكلام، ويداوي ببلسم بلاغته الكلام، ويوصب بسحر بيانه إلى هدف القصد والمرام؟ فهل بلغ البله بابن عائشة إلى هذا الحد، فخاطب أعظم ملوك أوربا إذ ذاك بمثل هذا الخطاب الصبياني في خطبة فلذة كبده، وريحانة قصره وقرة عين ملكه لملك عظيم، عرف بعلو الهمة والشهامة والغيرة، والمحافظة على أبهة الملك وسطوة السلطان؟ هذا يسأل عنه من درس حياة الخاطب، وسيرة سفيره ابن عائشة معه، وما لسفيره هذا من المكانة المكينة في العقل والدهاء ونفوذ البصيرة، وعدم الدخول في ميادين الفضول، والبصر بما يصلح من الشئون الدولية، وما لا يصلح، وعدم تجاوزه لحدود وظيفته، وما تقتضيه رسوم مرتبته، فلم يكن ابن عائشة مغفلاً ولا أبله ولا إمعة ولا فضولياً ولا ثرثاراً حتى يأتي بسر من أسرار سيده، لو كان، ويضعه بين يدي كاتب أجنبي لتاجر أجنبي، ويتبرع بإطلاعه عليه والإفضاء به إليه ليفضي به لدولته، فيذيع وينتشر قبل وصوله لصاحبه المخاطب به، ويشهده مع ذلك على نفسه، وهو يعلم قيمة شهادته عنده وعند غيره إذ ذاك
نحن لا نشك في أن المصاهرة هي من آكد العلائق وأوثقها بين ملوك الدول، ولا زال الملوك يرغبون فيها، توطيداً لدعائم عروشهم، وتثبيتاً لمراكزهم، وتسييراً لنفوذهم، وسعياً وراء تأمين ممالكهم، فليس هناك من عارٍ يلحق الجد أبا النصر إسماعيل لو ثبتت خطبته لبنت أعظم ملوك أوربا في عصره، سعياً وراء ربط علائقه معه برباط من المصاهرة وثيق، واستطلاعه على أسرار دولته، الذي لا يتأتى إلا بالمصاهرة، وليس في الدين الإسلامي مانع منه؛ ومن الضروري لدى كل المسلمين أن الشرع الإسلامي، يبيح التزوج بالكتابية، وفرنسا من أهل الكتاب، فحينئذ لا داعي لتستر الجد مولاي إسماعيل، وتكتمه في هذا الأمر الذي يبيحه شرعه القويم لو شاء، ولا موجب لالتجائه إلى هذه الخطبة بهذا الأسلوب المريب الغريب المخل بعظمته وعظمة المخطوب إليه، كما أنه لا داعي لارتكاب