ابن عائشة هذه الهفوة، وهو ذلك السفير الحازم (الضابط) المجرب العارف بمقتضيات أحوال الملوك وما تتطلبه مناصبهم ومراسيمهم، وما تتنافس فيه نفوسهم الطماحة من التنافس فيما يظهرهم بمظاهر العظمة والجلال والفخار المطلق، على أن ابن عائشة إنما كان سفيراً في الشئون الراجعة إلى وظيفته، ولا شك أن هذا الأمر ليس منها في قبيل ولا دبير، فلم يكن ابن عائشة في الدولة الإسماعيلية وزير خارجية، وإنما كان رئيس البحرية، يترأس الأساطيل المغربية التي كانت تمخر عباب البحر إلى شواطئ الدانمارك، وفرنسا، وغيرهما، فكيف يمكن أن يكلفه مخدومه بهذا الأمر، وهو بعيد عنه تمام البعد؟ بل كيف يمكن تدخله فيه، وهو بهذه المثابة، مع وجود من تسيغ التقاليد الدولية تكليفه بذلك من وزراء ورؤساء الدولة الإسماعيلية المدنيين السياسيين؟ بل كيف لا يفطن مولاي إسماعيل لذلك، وهو ذلك الملك الألمعي (الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا) يندب لكل مهمة أهل بلواها، حسبما شهد له بذلك غير واحد، حتى من ساسة أوربا؟ قال الأب بيستوفي مؤلفه المعنون بحكاية حوادث بالمغرب، صفحة ٣٥ منه في حقه: يدرك ما يدور في ضمير مخاطبه قبل أن ينطق بمراده. إلى أن قال: بصير بعواقب الأمور، آخذ بالأحوط في متوقع الحوادث، وبصفحة ٦٠ منه لا يسند تدبير أموره بغيره من قواد وكتاب، ولكن يستشيرهم فيما عزم عليه فيحبذون.
لو كان هذا الكتاب صحيحاً، لجاء على صورة المكاتبة الدولية، وبأسلوبها، ولكانت له أهمية كبرى، وطنين ورنين في الدوائر الإدارية الفرنسية ذات الشأن، ولاحتفظ بأصله، كما احتفظ بغيره، مما هو أتفه منه في السجلات الدولية والفرنسية المعدة لذلك، ولتناقله كتاب ذلك العصر من مؤرخي الشرقيين، والغربيين، فقد تتبعت بغاية اليقظة والتثبت جل المصادر المتعلقة بتاريخ دولتنا الإسماعيلية، مغربية وفرنسية، وغيرها مما كتب بلغات مختلفة، وأساليب متعددة في ذلك العصر، كرحلة مويط، وتاريخه للدولتين، الرشيدية والإسماعيلية، سواه كثير، فلم نعثر على شيء، ولم نقف لهذه الأحدوثة على أثر ولا خبر يسمع وتطمئن النفس إليه، ولطالما تباحثت في ذلك مع جماعة من علية المستشرقين وغيرهم، فلم يفيدوا بما يحسن السكوت عليه، ومنهم من وعد بالبحث في مواطنه، وبعد مدة أجاب سلبياً، وغاية ما هنالك، رواج القضية حتى استفاضت بدون استناد لأصل أصيل