إلى الماضي السحيق وخاصة في منطقة جبرين، كما عثر هناك على حلق مفككة، وخرز مبعثر هنا وهناك، وشظايا خزف، وجرار مدفونة في الرمال!
ويعجبنا من المؤلف أنه كان أثناء الرحلة حركة فعالة، فقلما ترك فرصة إلا وشغلها في البحث والتنقيب، خلال الأشجار وثنايا المخارم، وادعاص الرمل؛ وكان في سيره لا يساير القافلة بل كان في اتجاه آخر يتعثر بين أنجاد الفلاة وأغوارها، عله يقع على جديد، أو يتوصل إلى شيء غريب، وقد كان له ما أراد فقد وضح لنا أن منابت الربع الخالي لا تنبت إلا العبل والعندب والعلقة والبركان والمرخ والحمض والغضا والحرمل والسمر والسرح، وهذه النباتات يقتات بها حيوان ذلك الإقليم وتساعف الجمال في رحلاتها الطويلة الشاقة. ومن أدهش ما حدثنا به المؤلف أنه توجد في تلك الصحارى الغبراء مروج مخضلة ومناضر ساحرة، لمسارح الإبل، ومراعي الشاء!
ولعل الظاهرة الطبيعية في ذلك البلقع من الأرض، هي الرياح فقد كانت شديدة الدوي، قوية الأعتكار، ومع هذا فلها موسيقى عذبة، ولحن مطرب، ترنحت لها أعطاف الشيخ عبد الله وخال نفسه في الـ وذلك عندما اعتلى قوزاً من الأقواز، وكانت الرياح تصفر حواليه، وهناك استرعى انتباهه لحن عذب، ظنه لأول وهلة صادراً عن أحد رفاقه، ولكن تبين له أخيراً أنها أغان مبعثها الرمل وقد استكتب المؤلف أحد العلماء الطبيعيين عن أسبابها في فصل أدرجه في خاتمة الكتاب
وهذه الرياح الهوج كانت من أكثر الصعاب في عرقلة سير الاستكشاف ومضايقة المؤلف في أبحاثه، فهو يحدثنا في ص١٨٨ كيف ثارت الطبيعة، فعصفت الرياح، وانبعثت الأعاصير، فزعزعت المضارب وحطمتها ثم استوى عليها الرمل وما أخرجوها إلا من بطن الأرض
وهذه الظاهرة ليس للشك فيها مجال، فكثيراً ما سمعنا في حضرموت أن الرجل يقف في وسط هذا الرمل فما تمضي عليه عشر دقائق حتى يصير مغروزاً فيها؛ والحضارمة لا يسمونه إلا (البحر السافي!)
ويمضي المؤلف ويصف لنا الآبار في هذه الأصقاع، فيحدثنا أنها كثيرة جداً، وما على البدوي إلا أن ينبش الأرض على بعد بعض قوائم، فيرى الماء وقد نزا من جوفها! وحفظ